الثلاثاء، 23 ديسمبر 2008

حالة استهبال

تكتنفنى حالة غريبة مزمنة من حالات الاستهبال فى كل عام فى مثل هذا التوقيت تقريبا , لا ادرى اسبابها ولا علتها , حتى أننى _ وانا الذى اتباهى دائما بصحتى النفسية - اشعر بوجود ازمة نفسية او روحية تحدث لى فى مثل هذا الوقت سنويا .
والحالة التى اعانيها يا سادة - وعلى ذكر السادة فقد ادمنت القهوة السادة ترحما على من كانو يوما بشرا فى مصر وانا بالطبع منهم - هى اننى لا اريد ان اعمل . تظنوننى مجنونا ؟ أليس كذلك ؟ نعم لا اريد ان اعمل . لا اريد ان اذهب الى عملى واتعامل مدراء اغبياء لا يعلمون شيئا من بعيد او من قريب فى ادارة العمل . كل ما يعرفونه فى ادارة الاعمال هو تصيد الاخطاء بشكل سافر او حتى مستتر . لا أريد ان اذهب للعمل واتعامل مع زملاء كل ما يشغل بالهم هو الشرب بيمينهم ودخول الكنيف بيسارهم والدعاء للحاكم او للمدير او لتراب الارض كما يقولون . وعندما اعصر على قلبى ليمونه حمضانه واذهب للعمل , اكتشف انه قد تم استنزافى عصبيا وبدنيا بشكل غير ادمى , ويحين وقت عمل بعد الظهر و بعد ان اخرج جثة زائغة العينيين , تبدأ ملحمة الموصلات او دعونى اقولها بشكل ادق ملحمة امتهان الكرامة . فى مصر وبالاخص القاهرة- بلد الالف كوبرى - تتحرك جحافل البشر فى كل اتجاه بشكل عشوائى لا مثيل له من وجهة نظرى . تخيل سيارات الميكروباص وهى تنتشل الناس من على الارض ثم تقذف بهم فى بحر متلاحم من البشر , لا تعبأ بكبير او بصغير بسليم او بمعاق . وعندما يوفقك الله عز وجل فى ركوب الميكروباص الاشبه ببرطمان الطروشى رائحة وازدحاما تكتشف ان الباش سواق لن يوصلك لنهاية الخط . ستنزل قبل نهاية الرحلة وتبحث عن وسيلة نقل اخرى - لا يعنيك ماهى - كى تصل الى ما تريد الوصول له . ولا تحدثونى عن معجزة السيد الرئيس مترو الانفاق , اكاد اسمع احدكم يقول لى ولما لا تركب المترو يا اخى ؟انت غاوى غلبة ؟
هل تسمعون ضحكاتى الان ؟ ان مترو الانفاق يا سادة - اقصد مترو الالتصاق - لا يمت بصلة بمفهوم الانفاق وخاصة الخط الاول الاشبة بالقطار . اتحدى اى انسان يستطيع ان يركب من محطة عين شمس بعد الساعة السابعة ونصف من اول قطار . وكأن القاهرة كلها قد قررت ان تركب المترو من هذه المحطة فى هذا اليوم تحديدا . تلمح فى اعين الناس نظرات توسل غريبة تكاد تنطق قائلة ( والنبى اركب المرة دى بس وبعدين ربنا يسهل بعد كده ) . الموصلات فى مصر تحتاج الى صحة فريدة ولا اتحدث عن الصحة الجسمانية ولكن اقصد الصحة النفسية . كم هائل من الوان الضغط العصبى يحمله المواطن المصرى على كاهله يوميا ولا استثنى احدا الا الملاك الحقيقيين للدولة . حتى من لديه سيارة وتظنون انه ناج من اهوال الموصلات يتحمل الكثير من عبثية تأصلت فى وجدان هذا الشعب الهلامى . معاناة لاتنتهى يوميا وخصوصا لمن هو مثلى ينتقل من مكان الى اخر كل ساعتين او يزيد ويعانى من اعاقة جسدية . ومع ذلك لا ادرى هل كل ما ذكرت يعد سببا لعدم رغبتى للعمل ؟
ربما هو الملل . والملل ايها السادة القراء - قال يعنى فيه قراء - هو رفيقى العتيد طوال رحلتى الدنيوية الفانية . فأنا اشعر بالملل والضجر والسأم ( لا ادرى هل توجد مترادفات اخرى لهذه الكلمة ام لا ؟) بعد اقل من شهر من تواجد فى نظام روتينى ما . والملل له تأثير جلى على روحى , فتشعر ان هناك كأبة غريبة قد القت بظلالها على ملامحى , وتشعر انك لا تتحدث لبشر بل لاحد الاناسين الاليين فى فيلم I robot . كل ما تم برمجته فى عقلى يخرج بصورة ألية بعيد كل البعد عن الابداع والتجديد عملا بقول كفار قريش ( هذا ما وجدنا عليه ابائنا ) الروتين يقتل الابداع بلا شك وايضا الادارة السلطوية التى تتعامل مع مستخدميها بمنطق شطرنجى لا يحيدون عنه . فأنت مجرد ترس فى ماكينة هائلة اسمها المؤسسة التى تعمل بها . او بالاحرى انت قطعة شطرنج تتحرك بالكيفية التى رسمها لك المدير المعتوه وان حيدت على المسار المطلوب منك فأنت مرفوض يا ولدى ومرفود . ربما ليس الملل ربما هو الشك اليائس . ها اراك تقول ( الان بدأ يتفذلك ويتحاذق علينا ) . نعم الشك اليائس يا سادة و هو مصطلح ابتكرته مؤخرا من جراء معاناتى فى ويلات الحياة , وأعنى به تلك الحالة التى تجتاحك عندما تشك فى كل ما تلمسه يديك و لا تستطيع الا ان تلمسه . طبعا عبارتى مبهمة . حسنا للتوضيح اقول : انت تشك فى ان هذه البرتقالة التى تمسكها فى يدك وتشتهيها وقد سال لعابك عليها بها مواد مسرطنة وربما بها ديدان لا تراها من جراء استعمال الاسمدة والهرمونات ومع ذلك ان تيأس من شكك هذا وترفض هذا الشك وتعتبره وسواس شيطانية وتبسمل ثم تحوقل وتتمتم بما تحفظه من ايات الذكر الحكيم كى يقيك الله شر ما بهذه الثمرة الخبيثة وتأكل متناسيا ما تشك به -ا نا على يقين ان ما تشك فيه هو يقين ولكن انت تخادع لا اكثر بحيلة دفاعية - هذا هو الشك اليائس يا صديقى . انت تشك ان الماء الذى تشرب ملوثا ومع ذلك انت يأئس فى عدم شربك له .
ربما هى حالة اللاانتماء التى تعترينى هذه الايام وتجعلنى اتعاطى مع الامور ببرود شديد وكأن الامر لا يعنينى كثيرا , وكأنى ضيف فى هذا البلد المنكوب . وكأن الاهل والاصحاب وكل المعارف خيالات ظنية تأتى فى مخيلتى باشارات دماغية وتذهب بنفس السرعة كومضات برقية ليس الا . اخشى من حالة اللاانتماء هذه . اشعر اننى انسلخ من جلدى . عندما اجلس على المقهى ,وارقب الناس, اشعر بكم العبث الذى نحيا فيه . هل انا فعلا منتمى لهؤلاء ؟ هل يشعرون بما اشعر ؟ هل الناس تعانى كما اعانى او كما كنت اعانى ؟ لا ادرى شيئا
بالطبع انت تنظر الان لعبارتى الاولى التى اقول فيها اننى اتباهى بصحتى النفسية , وتضحك ولكن لا تضحك يا صديقى فأنى ما زلت اتباهى بصحتى النفسية الى الان والدليل على ذلك اننى لم انتحر بعد

وحيد جهنم