قبل أكثر من عام , كتب العزيز " اسكندرانى " او " ياسر " فى مدونته
Away of Alexandria مسرحية بعنوان ( لا تحزن ....فلا أحد معك ) والحقيقة أنها أول ما قرأت فى المدونة وقبل أن أعتبر نفسى أحد أصدقائها.
عندما قرأت فصول المسرحية الاربع تباعا ودون النظر الى تعليقات أصدقاء المدونة - وهو ما أنصح به القارىء - أول الأمر لم أتصور ذاتية العمل أو حتى فكرة أقحام شخصيات المدونين فى صلب الحوار المسرحي ألا بعد أن قرأت التعليقات على كل فصل , ثم أكتشفت أن الكاتب قد أختار المسرح وسيلة فى طرح ما أراد ان ينقله من أفكار ونقد لكتابات بعض المدونين الى الفضاء الافتراضى وهو عالم التدوين . أذن نستطيع ان نقول أن هذا العمل المسرحى ما هو ألا تدوينات فى واقع الامر وانما بأسلوب جديد مبتكر , وأعتقد أن الكاتب حقق هدفه الى حد بعيد خصوصا لو لاحظنا أن أنتقاد المدونين لم يكن هدفا للكاتب طوال الوقت بل تشعر أنه كان يخرج من نقد أحدهم ليبدأ فى طرح أفكاره ومواقفه العديدة تجاه أمور مثل الميتافيزيقا وقضية الأيمان ومرورا بأزمة اللاانتماء .
لا أعلم ان كان هذا هو العمل المسرحى الأول للكاتب أم توجد أعمال سابقة له ولكن على أن اوضح أمرا قبل البدء فى تناول المسرحية بصورة نقدية الى حد ما , آثرت أن أتفادى نقطتين :
الأولى / الوقوع فى فخ التنظير
الثانية / تجاهل ذاتية العمل وأن المسرحية بشخصيتيها انعكاس لشخصية الكاتب وذاته .
بمعنى أخر اننى سأبتعد عن تبنى وجهة نظر الكاتب فى أفكاره كى لا أتهم بالتنظير ولتحقيق أقصى درجات الموضوعية فى التناول وأيضا سأولى ذاتية العمل أهمية خاصة .
************************************************
حينما تقع عيناك على الشخصيتين الوحيدتين فى المسرحية " أنا " و " هو " يتبادر الى ذهنك فكرة النقيضين , والتى قتلت أستخداما من قبل فى اعمال مسرحية وغير مسرحية كثيرة . كل نقيض يتبنى موقف ما يناطح به الأخر , يحاول أن يدحض موقفه ويبرز جوانب القصور فيه . وهذه الفكرة هى التى كونتها عند قراءتى للفصل الأول فى المسرحية وهو ماأصابنى بأحباط صراحة , ذلك أنه من الصعب جدا ولا أريد أن أقول مستحيلا أن يتناول كاتب طرح قضيتين متناقضتين بشكل فيه لا يميل الى أحدهما . ما يفقده موضوعية التناول ويجعل الامور تسير لا شعوريا فى اتجاه الرأى الذى يتبناه الكاتب ويميل معه وجدان القارىء .
أتذكر كتاب لدكتور مصطفى محمود - من أسخف ما قرأت فى حياتى - أسمه ( حوار مع صديقى الملحد ) , تشعر أن الملحد فى هذا الكتاب يقف موقف المبهوت والمتفاجيء من قوة وحجة الأجابات التى يتلقاها من صديقه المؤمن , وحينما يكون عليه طرح السؤال بصيغة تجعل المؤمن يتردد فى أجاباته , نجده يطرح أسئلة من السطحية ما يجعله فى موقف الأضعف حجة دائما . هنا تدخل الكاتب اللاشعورى فى تحديد مسار الحوار فهو يميل الى أحد النقيضين مسبقا .
مثال أخر وهو كتاب دكتور فرج فودة ( زواج المتعة ) والذى جاء فى سياق حوارى بين مسلم سنى ومسلم شيعى , كل يحاجج الاخر بما لديه من أدلة نقلية وعقلية لأثبات وجهة نظره وصحة موقفه , ولكنك فى مرحلة ما تشعر أن دكتور فرج فودة مال قليل وأرجح كفة الشيعة مظهرا قوة أدلتهم وحجتهم .بالتأكيد لم يحدث ما حدث فى رائعة مصطفى محمود ولكن الميل عن الموضوعية تستشعره فى كتاب فرج فودة ايضا .
كاتب المسرحية فى الفصل الأول حاول أن يستخدم اسلوب النقيضين ولكنى أراه أخفق فى جعل حوارهما عادلا ومتساويا لتبنيه أحدهما مسبقا .
لاحظ أسئلة " أنا " وهو يحاول أن يلعب دور المتدين , وهو الدور الذى أرغمه عليه الكاتب فقط لطرح مواقفه تجاه الامور من وجهة نظر الحادية :
أنا:( قليل الصبر) أيه موضوع ألهه ده؟ هو الله مش رب البشر كلهم ولا ايه؟
سؤال أخر لا يقل غرابة عن الأول والذى لا يخرج من شخصية موسوعية الثقافة مثل شخصية " أنا " كما سنتبين بعد ذلك :
أنا: لكن يا عزيزي في مجتمع أغلبيته مسلمة أعتقد أنه من الديموقراطيه والعداله أن يطبق شرع المسلمين، مش كده ولا ايه؟
ثم جملة تعجبية تثبت أن الأخ " أنا " قام بدور المتدين على أكمل وجهة بأمر من كاتب المسرحية وهو ما يضعف فى رائى البناء الدرامى للعمل , وكأن الكاتب يحرك الشخوص ويوجههم حيثما يشاء وليس أن الشخوص هى التى تتفعال وتتجول فى النسق الدرامى كما هى تشاء :
أنا: (متحفزا)يخرب بيتك أنت نسيت أنه فيه ايات كتير بتثبت صحة النص
ولكن اذا ما أخذنا فى الأعتبار نقطة ذاتية العمل وأن الهدف الأساس منه هو توجيه النقد لبعض المدونين وبث مواقف خاصة للكاتب يمكننا ان تتقبل الفكرة خصوصا أنك عزيزى القارىء ستجد نفس الاسئلة التى سألها "انا " تقريبا فى أى مناظرة بين مؤمن وملحد وأيضا نفس الجمل الأعتراضية الأستفهامية , وكأن الكاتب أراد أن ينقل لك ما يتم فى تلك المناظرات من أسئلة من جهة الدينين تصيب المرء بالعته المنغولى رغما عن أنف اهله .
وكم كنت أتمنى لو أن الكاتب تعامل مع الموقفين ( الايمان - والالحاد ) تعامل يبرز حيرة الأجنوستيك او الا أدرى وهو الموقف الألحادى الذى أعتبره الأكثر موضوعية على عكس الملحد و الألوهى أوغيرهم . ذلك أن حيرة الأجنوستيك من شأنها أن تتعاطى مع الموقفين دون أن تميل كل الميل الى أحدهما .
فى الفصل الأول نكتشف الحاد "هو" ونكتشف أيضا يسارية "أنا" ثم بعد ذلك نبدأ فى رفض فكرة النقيضين التى تحدثنا عنها قبل قليل لتظهر فكرة أخرى أجدها الأكثر منطقية
وهى أن كلا الشخصين يمثلان نزعتان مختلفتان وليستا متناقضتان لشخص واحد .
ففى حين نرى ونلمس ثورية "هو " ووحدته وجرئته وعدم مبالاة بما يفعله نقده بالأخرين , يكشف اقنعتهم وزيفهم بنفس سهولة اشعالهم لسجائرهم نجد "أنا " الذى يمثل الحالة المنهزمة لذلك الشخص بعدما تكالب عليه الأخرون بعد أن كشف زيفهم ,تابع الحوار الأتى وهو حوار طويل ولكنه ثرى جدا ويكشف عن النزعتين بوضوح :
هو: (بخبث) ألا بالحق أنت ما رجعتش عقبت عند أبو أحمد على تدوينة أحداث 18 و19 يناير ليه؟ الراجل متوقع مداخله قويه منك، غريبه خصوصا أني عارف أنك لك رأي طويل عريض مفصل في الموضوع وفي يساريين السبعينيات عموما
أنا: (ينظر للأرض وينخفض صوته) مش عاوز أزعله مني ، رأيي قاسي جدا، ومش عاوز أفقد مودته
هو:(يقفز واقفا ويكاد يصرخ) هاه..هاه... مش عاوز تزعله؟ هي دي مصيبتك ، أنك مش عاوز تزعل حد، من أمتى الكلام ده؟ ما كنت زمان حاد زي الموس، صلب زي الرمح، هجومي زي الشياطين، من أمتى بقيت بتحسس وتطبطب وتكبت رأيك عسشان ما تزعلش حد؟ أنت تحولت لمتناقض بسبب كده، كلامك بيناقض بعضه، وأرائك ماسخه وباهته وملهاش لون، من أمتى فهمني
أنا:( يطرق أكثر للأرض وترتخي ذراعيه ويكاد يبكي) تعبت، أنا وحيد ، أنا وحيد جدا، لا أنتمي لأي أحد، لا أنتمي لأي مكان، مش جزء من أي مجموعه، فاكر لما كانوا بيعملوا المجله في أسكندريه زمان؟
هو:(هادئا) أيوه فاكر، وفاكر أنهم كانوا بيعرضوا عليك تشترك معاهم وفي نفس الوقت بيهاجموك بقسوه رهيبه كأنهم خايفين منك ومن حدتك
أنا:(يرفع رأسه وتلتمع عيناه) أيوه كانوا خايفين، كانوا زي مجموعه من كلاب الصيد يتنبح على نمر مفترس، كانوا خايفين من حدتي ومن قوة مواقفي، كانوا خايفين لأني كنت حأرفع المجله أبعد كتير من السقف ألي كانوا متخيلينه أو حتى يتحملوه، وفي النهايه طلعوا نشره للأطفال وأتعاركوا عشان بنت وفشل المشروع كله، وفضلت أنا الكبير برضه
هو:(مبتسما وهادئا) فاكر صاحبك لما كتب لك على أهداء المجموعه القصصيه أنك دائما ضد وأنه يتمني أنك تجد معيه تتدفأ بها وتنتمي إليها؟
أنا:(يحلم) أيوه فاكر، لكن ما عملتش ده أبدا
هو: كنت دايما ضد الجميع، دائما تتبني أكثر المواقف تشددا وتطرفا وقسوه على نفسك وعلى الأخرين، حتى مع الشيوعيين ، يا عدو الشيوعيين رقم واحد (يبتسم)
أنا:(يبتسم) أيوه، عدو الشيوعيين رقم واحد، وأنا شيوعي أكثر ألتزاما وأيمانا منهم كلهم، المصابين بحول فكري وكساح أيدولوجي، كنت مخيف لهم لأني هاجمتهم من يسارهم مش من يمينهم، أربكتهم والكلمتين ألي حافظينهم من مقتطفات أعمال لينين الكامله دابوا زي الملح في الميه
هو: وهجومك على كتاب قصيدة النثر لأنك رأيت أنهم منتحلين ولا ثوريين ولا حاجه، وعدوانيتك ضد الجراد وحركة التسعينيات، وشراسة هجومك على كرادلة وأساقفة الحركه التشكيليه، وأحمد فؤاد سليم ألي وقفت في معرضه تقول بعلو صوتك أنه ما بيعرفش يرسم (ضاحكا) يخرب بيتك الراجل كان حيجيله أزمه قلبيه
أنا: (حزينا) لكن أنتقامهم كان رهيب، ألغاء معارضي بعد ما تنزل في البرامج السنويه، وحرماني من أني أقيم معرض في أي مكان
هو:(متعاطفا) أنت جمعت أعداء كتير جدا، أعداء أقوياء جدا، ووقفت ضد الجميع لوحدك
أنا:( مزهوا) صحيح، قاتلت بشراسه، مقالاتي زي القنابل وفي أي ندوه كنت أقدر أهزم أي منتحل رقيع الرأي وأكشف زيفه
هو:( ضاحكا) لم نأتي لنكون تلامذة ، وإذا كان يجب أن يقوم أحد ما بالتعليم فنحن من سنعلم وغيرنا سيأخذ موقع التلامذه، مش دي جملتك في ندوة شعراء النثر قدام الدكتور العشماوي وهداره وبقية كرادلة قسم لغه عربيه جامعة أسكندريه؟
"هو" و " أنا " هما ذات الشخص او بالأحرى هما نزعتان او حالتان مختلفتان لشخص ثالث . "أنا " هو الذات الحالية بعد أنكسارها بعد أن كان " هو " يوما ما , بعد أن فقد حدته الماضية وأصبح يخشى على زعل الأخرين بعد أن أكتشف أن ثمن صدقه وكشفه لزيف أنصاف الموهوبين وهجومه على كل من يجرؤ ويتعامل معه من منطلق أستاذية خاوية لا جوهر لها ولا صلب , هو أن يبقى وحيدا بلا كيان اكبر ينتمى إليه , وكأنهم قد قرروا نفيه فى صحراء خاوية عندما مزق أقنعتهم وكشف حقيقتهم بلا مواربة .
نعم هو يدفع ثمن جرأته و شجاعته فى طرح ما يريد أن يقوله بلا أدنى تردد حتى الشيوعين لم يسلموا من عينه الناقده الحساسة ليثبت لهم أنه شيوعى أكثر إلتزاما منهم , دائما يقف فى الجانب المضاد , دائما ضد وليس مع , دائما يقف فى أقصى درجات التشدد فى الرأى . يحرم الرجل من معارضه بلا تبرير جزاءاً وفاقا بما فعل وبما قال وبما تجرأ . عقاب شديد برز فى صدق ما قاله "أنا " كاد يبكى من حالة الوحدة الشديدة فلا مجال للحزن فلا أحد معه بعد أن تم نفيه وحتى وأن ظن أنه فى فضاء التدوين قد يستمد العون يثبتون له أنه وحيداً بلا مرافق .لا تحزن لا مبرر للحزن فسواء حزنت أم لا , تبقى النتيجة واحدة انه لا أحد معك .
فى الحوار السابق وأن كنت اعده حوار شديد الخصوصية لا يمثل الكثير من الثراء المسرحى الا أنه من الصدق ما يجعلك تشعر بدمعات كثيرة ل " انا " و " هو " معبرين عن هذه الحالة .
إذن لنا ان نعتبر الأن أن كل من "هو " و "أنا" نفس الشخص ولكن فى مرحلتين مختلفتين . وهذا أيضا يتضح حينما نرى الحوار الأتى :
أنا:(ببرود) مش مشكله، عموما غالبا فيه ناس جايه تزورني
هو:(يلتفت بحده) ناس مين؟
أنا: أصدقاء وصديقات، كده يعني
هو:(ينهض في حده) لأ..ما حدش ييجي، مش عاوز حد ييجي، أحنا بس، أنا وأنت بس، كما كنا دائما ، أنا وأنت بس ، فاهم مش عاوز أي حد يكون معانا، شيل من دماغك أي أفكار حوالين أستضافة أي حد، شيلها نهائيا
عدم الرغبة فى التواصل مع الأخرين هنا مردود على عدم الثقة فى جدوى التواصل معهم فى الأساس . فكلاهما يتحدث بلغة مختلفة
وعلى الرغم من الفوقية التى يتعامل معها " هو " مع مدونات الاخرين وهو ماتلمسه طوال الثلاث فصول , تشعر أن "هو " الذى يمثل الجانب الناقد فى الشخصية او النزعة الثورية لا يستغنى عن التواصل مع "أنا " كشريك له فى نفس الجسد, اى أن الأنفصال بينهما وعدم التواصل يعنى فقدان كلاهما لمعنى وجودهما .
وفى حين عدم التواصل مع الأخرين عند " هو " إختياريا نجده عند " أنا " فشلا وكأنه يتحدث بلغة اخرى مع الأخرين فلم يشعر بإنتماء لهم , كما ظهر فى الحوار قبل السابق .
نعلم بعد ذلك أن الأثنين ليسا فى مصر من السياق العام حينما يقول "انا " : (يضحك) بجد اللاهوت الجديد من كلامه عنه جنني خالص حاسس أنه حاجه كده شبه المسيحيه لغير المؤمنين، شكله ممل أكتر من البروتستانتيه، عموما لما أنزل مصر ابقى أدور على كتب في الموضوع.
ثم يأتى الفصل الرابع وهو ما يجعلك تجزم أن الكاتب له محاولات سابقة على هذا العمل . وكأن روح ( صامويل بيكيت ) كانت تحلق فى غرفة الكاتب حين كتب هذا الفصل . إستخدام ادوات مسرحية لم نرها فى الفصول الثلاث السابقة , الإضاءة و المؤثرات الصوتية والمستوى الراقى والحساس فى أقحام رموز بمنتهى البراعة وبدون تكلف ظاهر . واللغة فى هذا الفصل لغة مختلفة تماما تختلف اختلافاً كبيراً عن الحوارية المفرطة فى الفصول الثلاث الأولى وهو ما يجعل المشاهد أو القارىء يشعر بالحيرة من فرط كثافة الأفكار فى الفصول الأولى وثقلها . فى حين أن الحوار فى الفصل الأخير جاء مقتصراً وأكثر بساطة وبعيد عن التنظير الأيدلوجى وكان مجالاً أخرًا فى طرح إستفهامات فى عقل المشاهد أو القارىء . ومنذ الوهلة الأولى تشعر أن هذا الفصل مختلف عن الباقين حتى فى وصف خشبة المسرح وطريقة جلوس الشخصيتين. شاهد توصيف خشبة المسرح :
المسرح مظلم تماما، نسمع من بعيد طقطقات وفرقعات، وما يشبه أنفجارات بعيدة وأصوات طائرات وصافرات سيارات أسعاف ومطافىء مسعورة، تسمع طقطقة قداحة عدة مرات وفي كل مرة تلتمع شرارة في الظلام الدامس، تشتعل القداحة، على ضوئها الخافت نرى أنا جالس على الأرض مسندا ظهره للصندوق يشعل شمعة، يتنهد ويحدق أمامه صامتا مواجها الجمهور بجانبه الأيسر، ديكور الصالة كما هو في الفصل الماضي ما عدا أن النافذة الكبيرة محجوبة بشيش حصيرة،يدخل هو من اليسار حاملا شمعة أكبر وضوئها أعلى، يضعها على الصندوق ويقترب ببطء شديد من النافذة كأنما هو خائف، يشد خيوطها ليفتح الريشات، يغمر الغرفة ضوء أحمر كأنما حريق هائل يشتعل في الخارج، الضوء يكشف إلى أقصى يمين الصالة تمثال بلاستيكي (مانيكان) لأمرأة طويلة عجفاء كشرة الوجه بشعر رمادي تربطه خلف أذنيها وتمسك خرزانة طويلة، هو يذعر لثانية كأنما فوجىء بها، يقترب منها بحذر، يتأملا مقربا وجهه من وجهها، يهز كتفيه ويذهب ليجلس بجانب الصندوق مسندا ظهره عليه مواجها الجمهور بجانبه الأيمن، ظهره لظهر أنا، لا ينظر إليه) يشعل سيجارة وينفث دخانها متنهدا وناظرا للسقف .
إختلاف كبير كما تلاحظون وثراء مسرحى أوفر من ما رأينا . ولكن هناك شيىء لمسته بعد قراءتى لهذا الفصل ربما يكون رائى هذا خاطئ غير صحيح ولكنى أجد لزاماً على أن أقوله وهو أننى تذكرت بعد إنتهائى من قراءة الفصل الرابع "جمال الغيطانى"
لا أدرى أن كنتم توافقوننى على هذا الرأى أم لا؟ وهو أن جمال الغيطانى فى كثير من أعماله تشعر فى نهايتها بنوع من اللهوجة ما يجعل قوة بداية روايته يناقض تسرعه فى نهايتها . هذا ما شعرت به عندما أنتهيت من قراءتى للفصل الرابع شعرت ان الكاتب أنهاه بشيىء من التسرع وأنه كان يجب أن يمنحنا نصيبا أوفر من متعة الرموز التى حاكها أمامنا بشياكة ومهارة فى الواقع .
فى الفصل الرابع كما قلنا ترصد العديد من الرموز نتناولها بشىء من التحليل تباعاً من الأهم الى الأقل أهمية من وجهة نظرى الشخصية بالطبع
الرمز الأول / هو: (يمد يده داخل الصندوق ويخرج ذراعين وساقين وجذع بشري ملفوفة بلفائف مومياء وهو يعدها) عدد أتنين دراع، عدد أتنين ساق، عدد واحد جذع، لكن فين أهم حته؟
من الحوار تكتشف أنه كان لا بد أن يجلبا معهما هذه المومياء وأنه ولا بد ان يرحلا بها أيضا ولا يستطيعان التخلى عنه .
والواقع اننى نظرت إلى هذا الرمز من منظورين, أحدهما ذاتي والأخر غير ذاتى .
والمنظور الأول لهذا الرمز هو أننى أعتبره الشخصية الأساسية قبل الأنفصال الى شخصية "أنا " وشخصية " هو ", أى ببساطة هكذا أن هذا المومياء كانت يوما ما إتحاد "أنا" و "هو" وأنه بإنفصالهما بعضهما عن بعض حدث هذا التفسخ وأصبحت عاتقا على كليهما يحملانها أينما ذهبا . وكون الأعضاء ملفوفة بكتان المومياوات يعبر عن أصالة هذه الشخصية وأمتدادها الوطنى .
المنظور الثانى / وهو أقل قوة من الأول فى ظنى وأكثر عمومية وهو أن هذا الجسد يمثل القضية التى آل اليسار على نفسه أن يتحمل مسئوليتها والمومياء ترمز الى المصرية هنا .
أميل إلى الرؤية الاولى فى ترجمة هذا الرمز بل نستطيع أن نذهب الى اعتبار هذه الأشلاء ذات الكاتب بعدما فقد حدته كما يظن .
الرمز الثانى / جو عدم الأمان وجو الحروب خارج الغرفة وهو واضح فى الوصف المسرحى فى بداية الفصل الرابع أعلاه . والرمزية هنا فى خلق جو مؤدى لحالة من العبثية ظهرت فى حوار الفصل الرابع . و الارتباط وثيق بين عدم الشعور بالأمان خارج حدود الغرفة أى فى المجتمع الخارجى وبين الشعور بعبثية الاشياء على إطلاقها فالعبث أو بمعنى أدق الشعور بالعبث هو ما يفقد الأشياء معناها كما فى الحوار الآتى :
هو: ماشي (يعيد الأجزاء للصندوق بعناية وهو يتأمل كل منها قبل أن يضعها) والمعنى؟
أنا: معنى أيه؟
هو: معناه ومعنايا ومعناك ومعنى ألي بره ده، معنى الكلام والفعل، أيه المعنى؟
أنا: حتى أنت بتسأل عن المعنى؟
هو: ما هو لازم يكون فيه معنى لكل ده
أنا ليه؟ عشان حضرتك الأنسان ألي فاكر نفسه إله ولازم كل شىء في الوجود يبرر نفسه قدام مفاهيمه ومعرفته وخبراته ومعانيه؟ أكتب على ورقه أي حاجه أنت عاوزها وعلقها على الوجود وبكده يبقى ده المعنى، مش ده ألي البشر بيعملوه دايما؟ بيعلقوا لافتات على كل شىء في الوجود عشان يديلوه معنى من وجهة نظرهم؟
هو : (محبطا) يعني مافيش معنى؟
أنا: أخلق معناك الخاص، أنا ماليش دعوه، أنت حر
عندما يخيم العبث فى سماء الشخوص يفقدون قدرتهم على التواصل وتفقد الأشياء والقضايا معانيها التى توصف كنهها . هنا فقدان المعنى ربما يكون مردود لأزمة وجودية يعانى منها شخصيتى المسرحية وهى أزمة تشعرهم بوحدتهم سواء المختارة عند "هو" او الجبرية عند " انا " .
وفى النهاية يقحم الكاتب علينا ببراعة الشعور بحتمية الرحيل وهو رحيل جبرى لأقتراب الخطر الخارجى , لا أختيار فيه , ويضع امامنا هذا الشعور بطريقة تجعلنا نتسأل عن معنى ما يحدث , مرغما عقولنا على العمل قسراً فى ترجمة ما نراه فى الرمز من عانى قد تختلف بين شخص وأخر . لاحظ الحوار الآتى :
(قترب من النافذه ويبعد ريشات الشيش ويحدق للخارج)
هو: (دون أن يلتفت) قربت؟
أنا: ما تخافش ..لسه بعيده
هو: مش عارف ..أنا قلقان الصراحه
أنا: ما تقلقش، لسه فيه وقت..حنلحق
لا نعرف من منهما يقترب من النافذة , قد يكون "أنا" أو "هو " ولربما تعمد الكاتب ألا يخبرنا للتأكيد على أنهما ذات الشخص , أو ربما نسى الكاتب غير متعمدا أن يخبرنا . إلا اننا نستطيع أن نعتبر ذلك حيلة متعمده للتفسير السابق .
الرمز الثالث / وهو أبلة إبتسام . وهذا الرمز ربما معناه الوحيد عند الكاتب فهو وحده يعلم معنى وجود أبلة ابتسام ورمزيتها فى عمله, ولكننا سنجتهد فى ترجمة هذا الرمز على قدر إستطاعتنا .
ندرك أن أبلة إبتسام من لقبها هى مدرسه ومن حملها للخرزانة وتصويرها بشكل قبيح ندرك منها أنها لم تكن خبرة جيدة مر بها الكاتب ولا نعلم إلا أنها قادرة على المجيىء وحدها ولا يعبأ الشخوص بحملها معهم فى سفرهم القادم فهى تستطيع أن تأتى وقتما تشاء , ومن الحوار الأتى يتضح الرمز اكثر :
هو: مين دي؟
أنا: أبله أبتسام
هو: وأيه الي جابها؟
أنا: هي جت لوحدها، ماحدش جابها
هو: جت لوحدها؟
أنا: أيوه..هي صغيره؟
هو: ومالها متخشبه كده ومطنشانا؟
أنا: ما هي ميته ..الله يرحمها
هو: بجد؟ ماتت أمتى؟
أنا:(هامسا) من زمان، بس وطي صوتك، لأنها غالبا ما تعرفش
هو: ما تعرفش أنها ماتت؟
أنا: (هامسا) أيوه ما تعرفش، فما تجرحش مشاعرها
هو: طيب أنت مقعدها معانا ليه؟
أنا: يمكن تنفع، أحتمال نحتاجها هي والخرزانه عشان العيال بتوع أبتدائي يقعدوا في فصولهم ويبطلوا يروحوا ناحية فصول ثانوي
أبلة إبتسام وخرازنتها ستستخدم فى تأديب أنصاف الموهوبين من طلبة الابتدائى حينما يقتربون من فصول ثانوى , بالطبع ندرك رمزية طلاب ابتدائى وثانوى هنا وهم
أولئك الذين يصادفهم الكاتب فى حياته ويحاولون أن يلعبوا دورا أكبر من حجمهم الطبيعى . هى رمز أراه يمثل القدرة التأديبية لدى اليسارى فى محاصرة الفئران بحقيقتهم بصورة دائمة .
هنا بقى شيىء يتعلق بلغة الفصل الرابع وكما قلت من قبل يغلب على هذا الفصل طابع العبثية . وفى القالب العبثى تتنحى اللغة جانبا ليحل معها لغات اخرى يستخدمها الكاتب بديلا عن اللغة لعدم ثقته فيها , فنجد لغة الجسد وهو شيىء مفتقر فى المسرحية التى نتناولها فالشخصيات لم تتكلم بطريقة جسدية وأيضا نجد لغة الرمز وهو ما نراه مكثفا فى الفصل الرابع فقط دون الفصول الأخرى وأستغله الكاتب ببراعة فى تقديرى . ولذلك نجد عبثية إجابات "أنا" رداً على تساؤلات "هو " على النحو الذى نراه فى الحوار المقتطع الأتى :
هو: والأخوان الحلوين، حلهم أيه؟
أنا: يلتفت إليه، حلهم أبله أبتسام وخرزانتها...سؤال عجيب، تفتكر حيعملوا فينا أيه لو حكموا؟
هو: والليبراليين؟
أنا: (يبتسم) ظراف، حنبوسهم ونحطهم جنب الحيطه
شيى ءأخر أجده من الأمانة أن اقوله وهو امكانية العرض المسرحى لهذا العمل .نظريا العمل قابل للعرض ولكن ما قد يعيقه هو صغر حجمه الا لو اعتبرناأان له بقيه ما قد يكتبها الكاتب يوما ما .
قد أتناول فى تدوينة قادمة بعض الأفكار التى تعاطى معها الكاتب وفى هذا التناول سأعفى نفسى من إلتزامى بالبعد عن التنظير فقط لإيضاح بعض الافكار التى سببت صدمة لقارىء المسرحية حين نشرت على المدونة .
كما احب ان اشكر الزميل اسكندرانى على ثقته والسماح لى بأن اتناول هذا العمل بالتحليل على مدونتى وهو ما جعلنى اولى اهمية خاصة لهذا للدرجة التى جعلتنى اعيد تنقيح التدوينة مرات عديدة واتمنى ان اكون قدر هذه الثقة فى تحليلى .
وحيد جهنم
الثلاثاء، 30 يونيو 2009
الثلاثاء، 23 يونيو 2009
المعاق والمختلف 2 ( نظرة فى فيلم باب الحديد )
فى تاريخ السينما المصرية لم نشهد معالجة سينمائية جادة تناقش وتتناول بشيىء من الموضوعية والحس الراقى للأزمة الوجودية التى يعانيها المعاق سوى فى يتيمة يوسف شاهين عالمية المستوى ( باب الحديد ) . ربما ظهرت محاولات عن استحياء تتناول نظرة المجتمع لهذه الفئة وبالطبع أكتنفت هذه المحاولات سحب السطحية والركاكة الفنية ولم تتناول من بعيد او من قريب نظرة المختلف فى طوره الأول لهذا المجتمع ومحاولاته الدائمة للحاق بقطيع الاغيار وطرق تواصله مع الاغيار ومع ألم المعاناة .
أذكر على سبيل المثال لا الحصر فيلم ( الخرساء ) الذى جاء فى اطار بوليسى ولم يقترب من جوهر المعاناة , وفيلم أخر لنور الشريف أسمه ( الصرخة ) , بمناسبة هذا الفيلم والذى يتشابه فى الاسم مع فيلم الرعب الهوليودى الشهير , حينما شاهدته أول مرة كنت أضحك كلما ظهر نور الشريف على شاشة السينما بمظهره الأشبه بعبيط القرية فى روايات خيرى شلبى , فاغرا فاه وكأنه متخلف وليس مختلف وكأن صناع الفيلم قد تأثروا بنفس النظرة المجتمعية تجاه المختلف واعتباره ذو نقيصة عقلية .
والفيلم كان من السطحية التى تجعلك تعتقد فى استحالة أن تجد أحدا من الأ غيار قادرا على فهم طبيعة المختلف بنفس طريقة يوسف شاهين .
(باب الحديد ) من الأفلام التى أثرت فى عينى ونفسى تأثيرا لم أدركه الا حينما استوعب ضميرى وعقلى كنه هذه الحالة الفريدة من التأرجح بين سواء مأمول فى عقل وروح المختلف و أعاقة جبرية يتعامل الأخرين معه على أساسها . وهى حالة أكاد اجزم أنها أكتنفت بل وعصفت نفس كل مختلف بغض النظر عن طبيعة وشكل اختلافه أو بالأحرى اعاقته . وهى حالة أيضا ليس من السهل على عالم السواء فهمها وتفهمها واستيعابها بالشكل الجيد ,فألم المعاناة فى رائى خير وسيلة لتفهم جوهر المعاناة وأسبابها .
حين عرض الفيلم أول مرة فى دار عرض سينمائى حطم رواد السينما أبوابها وكراسيها غضبا وسخطا على صناع الفيلم ومسئولى السينما الذى أغروا بهم وجعلوهم ينفقون قروشهم لمشاهدة فيلم لا تزيد مدته لا تزيد عن الخمس وستون دقيقة على الأكثر - على الرغم من ذلك تشعر انك تشاهد فيلم طويل لكثافته وثقل دلالاته وسرعة أحداثه . ربما لم يكن المجتمع وقتها قابل لتلقى قضايا مثل قضية المختلف . الفيلم أنتاج 1958 أخراج وبطولة يوسف شاهين فى دور( قناوى) بائع الجرائد , فريد شوقى فى دور ( أبو سريع ) , هند رستم فى دور ( هنومة ) , حسن البارودى فى دور ( عم مدبولى ) صاحب كشك الجرائد وراوى الفيلم .
الفيلم تدور أحداثه خلال يوم واحد فقط , من الصباح الى المساء فى محطة مصر للسكك الحديد او باب الحديد كما كان يطلقه عليها آباءنا وقتها , بكل ما يحمله موقع تصوير ضخم كهذا من دلالات كثيرة أهمها من وحهة نظرى رمزية المحطة الى التواصل والاتصال مع الناس فى المجتمع المصرى وقتها , والمحطة هى الاضخم فى البلاد مما يرمز الى المجتمع ككل بكل أطيافه وطبقاته وفئاته , والمحطة تحمل فى داخلها عالم حديدى من قطارات وقضبان والآلات حديدية توحى بقسوة البيئة فى هذا الموقع , والايحاء بأقتراب الموعد والتسارع قدمته كاميرا شاهين ببراعة عبر شوطات قصيرة زمنيا لقطارات تغادر وتأتى طيلة الفيلم ناجحا فى خلق حالة من التوتر والقلق تسربت بسهولة الى عين المشاهد.
شخصية المعاق - وهنا أصر على استخدام لفظة معاق لان قناوى فى باب الحديد كان معاقا ولم يكن مختلفا - أداها يوسف شاهين بصورة اكثر من رائعة يستحق فى رائى المتواضع جائزة الأوسكار لأحسن ممثل عن جدارة , أداء يضعه أمام الرائع ( آل باتشينو ) فى رائعته scent of a woman أحد أهم أدوار ( آل باتشينو ) وأكثرها كثافة . شاهين أدى دور المعاق الذى يعانى من عرج رجله اليمنى نتيجة لأعوجاج فيها ونكاد نرى هذا الأعوجاج واضحا فى احد الشوطات الطويلة وهو يسير مكافحا قضبان القطار ومتأرجحا كى تميل كتفه اليمنى - ببراعة وبدون تكلف زائد - لأسفل حين تدوس قدمه اليمنى على الارض . حتى فى بعض مشاهد الجرى والتى من الممكن ان يتغير تكنيك مشية الممثل فيها دون قصد تلاحظ محافظة شاهين على هذه النقطة وهى أن تميل الكتف لأسفل فى نفس توقيت استقرار القدم على الأرض بدون تكلف وعلى نحو ثابت تقريبا طوال المشاهد التى نرى فيها قناوى يسير . هذا بالنسبة للأداء الحركى للشخصية الأساسية فى الفيلم والذى بهرنى ومازال يبهرنى كلما شاهدت هذا العمل .
بالنسبة للأداء الصوتى لشاهين , كان ادائه ممتاز يظهر اضطراب الروح والمحاولات اليائسة للحاق بقطيع الأغيار عبر جسر هنومة وهو الجسر الذى رأى فيه انتمائه لدنيا السواء . وبعد محاولة قتل (حلاوتهم ) احدى زميلات (هنومة ) نلحظ أختلاف الأداء الصوتى لقناوى على نحو اكثر من رائع , كلمات غير مكتملة , مبتورة , بتناغم مختلف ووقفات صمت فى العبارات التى يقولها تشعرك بمدى الصراع النفسى فى الشخصية وبدون أن تحس للحظة واحدة بأدنى ملل او رتابة . وفى ضحكاته القليلة طوال هذا الفيلم نستطيع أن ترصد ثلاث ضحكات مختلفة الأداء , كل ضحكة كانت مقياسا لحالة شعورية مختلفة عن الأخرى .
الأولى بعد حواره مع طلبة - وهو الحوار الذى يصدم المشاهد ويواجهه بالطريقة التى يتواصل فيها المجتمع مع المعاق - نراه يضحك بشيىء من العبث ثم تنتهى الضحكة بوجوم واكتئاب ظاهر ونظرة شديدة الحساسية والاضطراب .
الثانية مع هنومة فى مشهد النافورة بعد عرضه عليها الزواج وطرحه لحلم المنزل , وهى ضحكة تكاد اشبه بالضحكات الهيسترية .
الثالثة فى أخر احداث الفيلم مع ( هنومة ) فى القطار قبيل محاولته قتلها .
الشيىء الوحيد الذى أعتبره سلبا فى أداء شاهين لشخصية قناوى هو اللهجة الصعيدى المميزة وتجاهله لها طوال الفيلم اللهم الا فى مشهد النافورة مع هومة قال ( ان باتكلم جد ) بتعطيش الجيم كعادة اهل الصعيد فى نطقها , وتسخر منه هنومة معلقة ( داد ) .
قناوى من قنا وصعيدى كما يخبرنا بذلك راوى الفيلم عم مدبولى فى أول الفيلم . ولا أعلم ما الداعى ان يتكلم قناوى باللهجة القاهرية طوال الفيلم .
أختيار فريد شوقى - محدود الموهبة - جاء مناسبا للدور تماما نظرا للشكل الخارجى الموحى بالقوة والعنفوان وهو ما أراد صانعو الفيلم التأكيد عليه بمشاهد تبرز قوته وعافيته ,كحمل الحقائب وانقاذ زميل له وقعت عليه حمولته فيحملها عنه بيسر , وفى صراعه مع رابطة المعلم ابو جابر فى أخر الفيلم . وكان التضاد الواضح بين شخصية قناوى النحيفة الزائغة النظرات والمتذبذبة الصوت وبين شخصية ابو سريع له عامل كبير فى ابراز استحالة بلوغ المأمول وعبور جسر هنومة لعالم السواء . وأداء فريد شوقى كان بسيطا جدا , شخص قوى ذكورى الاتجاه قيادى يأمل فى تكوين رابطة او نقابة للشيالين وهو ما يجعلنا نشعر ان العمل المجتمعى حكرا على هذا النموذج من الأغيار.
أختيار هند رستم لدور هنومة جاء جيدا كشكل خارجى وان كان أداءها نمطيا ومعتادا فى بعض المشاهد فانت تشعر انك فى كثير من المشاهد انك امام هند رستم المعتادة فى افلامها السابقة وليس امام هنومة بائعة المياة الغازية .
حسن البارودى كان أكثر من رائع فى جميع مشاهده القليلة فى الفيلم فقد استطاع أن يسرق أذن المشاهد قبل عيناه بأداء صوتى مميز جدا
الملابس فى الفيلم كانت مميزة جدا وغير متكلفة الا فى شخصية أبو سريع حيث ظهر فى زى مختلف تماما عن زى الشيالين وهو ما يجعلك تشعر بأختلاف الشخصية عن باقى الشيالين .
فى الفيلم خط درامى مواز أخر لفتاة وحبيبها تنتهى برحيل الفتى عنها بعيد فى أشارة الى تشابه النهايتان وهو عدم تلاقى الاحبة وفشل القصتان وينتهى الفيلم بصورة الفتاة الدامعة وفى الخلف أبو سريع يحمل هنومة بعد انقاذه لها من يد قناوى وصورة قطار ينطلق مسرعا خارج المحطة .
فى الجزء الآتى من التدوينة سأتناول بعض لنقاط محاول ان احلل بها الشخصية الأساسية للفيلم :
معاملة الأغيار للصورة المكروهة من المعاق :
وهى الصورة او الشخص الذى يعتبره المعاق خياليا غير موجود ويتعامى عنه متناسيا بذلك اعاقته او محاولا ان يتناساها وقد سبق ان اشرت لهذا الشخص فى التدوينة السابقة . تابع مع هذا الحوار من اصل السيناريو والحوار
طلبة : عقبالك يا عروجة
لقطة متوسطة لرجل قناوى وهى تهتز ويسحبها ببطء بينما يستمر الصوت من خارج الكادر
عم مدبولى : وبعدين يا طلبة
طلبة : ياعم اهو كلام انت بالك زى ده هيتجوز
عم مدبولى : يتجوز قوى ما يتجوزيش ليه
لقطة قريبة لقناوى يرفع وجهه وينظر من خلف زجاج الكشك وينظر للكاميرا والصوت مستمر ( وتظهر عينى قناوى من خلال تأثير الزجاج كبيرة وجاحظة وغير واضحة وتزداد جحوظا )
طلبة : غيرش بقى لما يلاقى واحدة خرج بيت ولا عرجه زيه
عم مدبولى : حرام عليك يا طلبة يا راجل خف عنه شوية
طلبة : ياعم هو ده بيهمه
عم مدبولى : لا يهمه قوى ربنا يعلم باللى هو فيه الكلمة دى بتوجعه قوى اذا كان ليا خاطر عندك بلاش تقولها له يابنى
الطفل : اه أصله بيزعل أنا عارف كده
نلاحظ هنا أمران هو تعددية الأخر فى تعامله مع قناوى فحينما كان يشفق عليه عم مدبولى وتظهر علامات التأثر على أبوسريع كان طلبة يضع امامه صورة المعاق ذو النقيصة والذى لا يستحق الزواج مثله مثل باقى البشر امام عين قناوى بصورة فجة , ويحدد مصيره بطريقة الوصى حينما يقول ان كان يريد الزواج فليجد واحدة خرج بيت او عرجه مثله .
والأمر الأخر رد فعل قناوى بحركة طبيعية وهو يدارى رجله المصابة او عاره الذى يتعامى عنه . ثم يرسل قناوى رسالة واضحة لعالم الأغيار المحيط به لا يفهمونها ويقابلونها بالضحك فى الحوار التالى :
قناوى : طلبة
طلبة : ايوه
قناوى : يعنى لازم تكون عرجة ؟
طلبة : ماجمع الا ما وفق
قناوى : واذا كانت عورة ما تنفعش
طلبة : تنفع اوى
قناوى : طب ما تجوزنى اختك بقى
( يضحكون )
يضحك قناوى ولكنه سرعان ما يتجهم وجهه فلم يفهم الأغيار ماأراد ان يقوله لهم
أان يقول أن الامر أسهل مما تتصورون وأن اقرب المحيطين لكم معرض للأعاقة ما قد تكون أنت او أخوك او أختك . أراد أن يقول ماذا سيكون موقفكم لو كنتم او أحد المقربين لكم فى موقفى هذا . ولكن تذهب الرسالة فى دخان سيجارة طلبة
مشهد اخر يبرز كيفية تعامل الاغيار مع الصورة المشوهة للمعاق فبعد ان تكتشف هنومة وجود قناوى فى كوخها يدور هذا حوار بينهما يحاول فيه قناوى التواصل مع هنومة مستصرخا اياها ان فقط تدعه يقبل يداها فيهرب قناوى من الكوخ ليحدث اشد المشاهد قسوة فى رأى فى الفيلم
هنومة : طب وشرف امى لاقول لأبوسريع يربيك يا قليل الادب يا عروجة انتو شايفين شاهدين
حلاوتهم : وراه يا عيال بالطوب
الأولاد : يالا يا احمد
يقذفونه بالطوب فتصيبه احداها وتسيل دمه ويتأوه
نقطة اخرى فى الأطار العام للفيلم وهى محورية فكرة الجنس فى شخصية المعاق وهو موضوع قد يسبب التباسا كبيرا على من يشاهد الفيلم دون أدراك لمعنى رغبة المعاق للجنس
فى الفيلم يفاجأنا عم مدبولى انه أكتشف ان قناوى شخص محروم وتدور الكامير فى أرجاء غرفته مركزة على كم هائل من صور فتيات شبه عرايا فنعلم ان قناوى محروم جنسيا وأن وجود هذا الكم من الصور العارية يشير على وجود تشوه نفسى كبير جراء حرمانه من حق طبيعى لكل انسان .
عندما نشرت قصتى القصيرة ( طريق اعرج ) على مدونتى قرأها احد الاصدقاء وسألنى لماذا التركيز على موضوع الجنس فى شخصية حسن بطل القصة ؟ فأجبته الجنس بالنسبة للمختلف هو اثبات لأنسانيته وتأكيدا لهذه الأنسانية المهدرة ففى حين يرى السوى فى الجنس شيئا حيوانيا الا ان المختلف يعتبره قمة التأكيد على الأنسانية فبممارسته للجنس مع السوى اصبح على قدر المساواة وأقترب أشد أقتراب من السوى وبالتالى دنا من قطيع الاغيار واصبح جزءا منه .
وبهذه الرؤية أستطيع أن أحلل محورية الجنس فى حياة قناوى ففكرة الحرمان تبدو سطحية جدا حين نتعامل مع المعاق على أنه شخص مريض نفسى ولكن الجنس لديه درع واقى من الشعور بالدونية والامتهان الذى يلاقيه بصفة يومية . فكانت هنومة هى بوابته الى عالم الأسوياء والأنخراط بينهم بندية . ولعلك تسأل ولماذا هنومة بالذات لماذا لم تكن أى شخصية نسائية اخرى فى الفيلم مثل حلاوتهم مثلا او أى من زميلات هنومة الاخريات ؟ والاجابة هى ان المعاق فى رحلته المستحيلة لبلوغ السواء يبحث فى اقصى نماذج الكمال ليقترن بها كوسيلة لترسيخ فكرة السواء لديه ولتجعل هذه الصورة الصارخة من السواء أى نقيصة او عيب فى جسده متواريا ومستورا فالمعاق قد اقترن بصورة شبه مطلقة للسواء
هنومة هى أجمل الفتيات واكثرهن أثارة ومطمع لأبوسريع نموذج الرجل الكامل , وبالتأكيد ليست خرج بيت , فأن اقترن بها قناوى كانت له جسرا قويا ومتينا الى دنيا السواء وكانت برهانا للأغيار أن يعاملوه بمساوة وندية .
فى أحد مشاهد الفيلم يعلق قناوى ثلاث نسخ لصورة واحدة بأوضاع مختلفة مرة بالشكل الصحيح ومرة بالجنب ومرة مقلوبة ثم ينظر الى الصورة التى علقها بالشكل الصحيح والسليم ويرسم على ذراع الفتاة جردل كالتى تستخدمه هنومة فى بيع المياة الغازية ويبدأ فى أحلام اليقظة ويسرح بخياله فى تصور السواء فقط من خلال هنومة .
الصورة بالشكل السليم ومعها الجردل تحمل دلالات وكأن السواء ارتبط بهومة وجردلها هو هويتها ,فى حين أن الصورتين وهما نفس النسخة, ليستا على الوضع السليم وبالتالى لا يستحقان ان يصبحا هنومة ولا يستحقان جردل هنومة .
نقطة أخرى فى الفيلم وهو لماذا كان قتل هنومة او بالأحرى محاولة قتلها حتميا بالنسبة لقناوى ؟ وهل كان قتله لها - على أعتبار أن محاولة القتل بالنسبة لى فى الفيلم تعنى القتل الفعلى - كان نتاج لحاله جنونية ناتجة من من حالة وله شديد حينما تأكد بأستحالة التواصل معها ؟ ام أن الأمر له بعد درامى اخر ؟
فى رائى انه يجب ان ننظر لمحاولة قتل هنومة نظرة وجودية بعض الشىء .
ففى الوقت الذى كانت هنومة تمثل لقناوى جسرا متينا صلبا لعبوره لعالم السواء بقبولها له كانت ايضا حجرا ربط فى ظهره ليغوض به الى أعماق الدونية بسرعة الصاروخ . كان رفضها له اشد دليل بأستحالة التواصل بندية مع الأغيار ولذلك كان قتلها واجبا بالنسبة لقناوى ففى حياتها تأكيدا صارخا على عدم مساواته للأغيار . قناوى لم يلحظ الفارق بين جسم هنومة وحلاوتهم ولا الفارق فى طول ولون الشعر كل ما كان يهمه ان يتخلص من دليل فشله على التواصل مع دنيا الأغيار . كان قتل هنومة حتميا له فلقد أصبحت قيدا له لن يتخلص منه الا بقتلها .
بقى أن اقول ان الفيلم قصة و سيناريو ( عبد الحى اديب ) حوار ( محمد ابو يوسف )
موسيقى تصويرية (فؤاد الظاهرى ) وأنتاج ( جبرائيل تلحمى )
أذكر على سبيل المثال لا الحصر فيلم ( الخرساء ) الذى جاء فى اطار بوليسى ولم يقترب من جوهر المعاناة , وفيلم أخر لنور الشريف أسمه ( الصرخة ) , بمناسبة هذا الفيلم والذى يتشابه فى الاسم مع فيلم الرعب الهوليودى الشهير , حينما شاهدته أول مرة كنت أضحك كلما ظهر نور الشريف على شاشة السينما بمظهره الأشبه بعبيط القرية فى روايات خيرى شلبى , فاغرا فاه وكأنه متخلف وليس مختلف وكأن صناع الفيلم قد تأثروا بنفس النظرة المجتمعية تجاه المختلف واعتباره ذو نقيصة عقلية .
والفيلم كان من السطحية التى تجعلك تعتقد فى استحالة أن تجد أحدا من الأ غيار قادرا على فهم طبيعة المختلف بنفس طريقة يوسف شاهين .
(باب الحديد ) من الأفلام التى أثرت فى عينى ونفسى تأثيرا لم أدركه الا حينما استوعب ضميرى وعقلى كنه هذه الحالة الفريدة من التأرجح بين سواء مأمول فى عقل وروح المختلف و أعاقة جبرية يتعامل الأخرين معه على أساسها . وهى حالة أكاد اجزم أنها أكتنفت بل وعصفت نفس كل مختلف بغض النظر عن طبيعة وشكل اختلافه أو بالأحرى اعاقته . وهى حالة أيضا ليس من السهل على عالم السواء فهمها وتفهمها واستيعابها بالشكل الجيد ,فألم المعاناة فى رائى خير وسيلة لتفهم جوهر المعاناة وأسبابها .
حين عرض الفيلم أول مرة فى دار عرض سينمائى حطم رواد السينما أبوابها وكراسيها غضبا وسخطا على صناع الفيلم ومسئولى السينما الذى أغروا بهم وجعلوهم ينفقون قروشهم لمشاهدة فيلم لا تزيد مدته لا تزيد عن الخمس وستون دقيقة على الأكثر - على الرغم من ذلك تشعر انك تشاهد فيلم طويل لكثافته وثقل دلالاته وسرعة أحداثه . ربما لم يكن المجتمع وقتها قابل لتلقى قضايا مثل قضية المختلف . الفيلم أنتاج 1958 أخراج وبطولة يوسف شاهين فى دور( قناوى) بائع الجرائد , فريد شوقى فى دور ( أبو سريع ) , هند رستم فى دور ( هنومة ) , حسن البارودى فى دور ( عم مدبولى ) صاحب كشك الجرائد وراوى الفيلم .
الفيلم تدور أحداثه خلال يوم واحد فقط , من الصباح الى المساء فى محطة مصر للسكك الحديد او باب الحديد كما كان يطلقه عليها آباءنا وقتها , بكل ما يحمله موقع تصوير ضخم كهذا من دلالات كثيرة أهمها من وحهة نظرى رمزية المحطة الى التواصل والاتصال مع الناس فى المجتمع المصرى وقتها , والمحطة هى الاضخم فى البلاد مما يرمز الى المجتمع ككل بكل أطيافه وطبقاته وفئاته , والمحطة تحمل فى داخلها عالم حديدى من قطارات وقضبان والآلات حديدية توحى بقسوة البيئة فى هذا الموقع , والايحاء بأقتراب الموعد والتسارع قدمته كاميرا شاهين ببراعة عبر شوطات قصيرة زمنيا لقطارات تغادر وتأتى طيلة الفيلم ناجحا فى خلق حالة من التوتر والقلق تسربت بسهولة الى عين المشاهد.
شخصية المعاق - وهنا أصر على استخدام لفظة معاق لان قناوى فى باب الحديد كان معاقا ولم يكن مختلفا - أداها يوسف شاهين بصورة اكثر من رائعة يستحق فى رائى المتواضع جائزة الأوسكار لأحسن ممثل عن جدارة , أداء يضعه أمام الرائع ( آل باتشينو ) فى رائعته scent of a woman أحد أهم أدوار ( آل باتشينو ) وأكثرها كثافة . شاهين أدى دور المعاق الذى يعانى من عرج رجله اليمنى نتيجة لأعوجاج فيها ونكاد نرى هذا الأعوجاج واضحا فى احد الشوطات الطويلة وهو يسير مكافحا قضبان القطار ومتأرجحا كى تميل كتفه اليمنى - ببراعة وبدون تكلف زائد - لأسفل حين تدوس قدمه اليمنى على الارض . حتى فى بعض مشاهد الجرى والتى من الممكن ان يتغير تكنيك مشية الممثل فيها دون قصد تلاحظ محافظة شاهين على هذه النقطة وهى أن تميل الكتف لأسفل فى نفس توقيت استقرار القدم على الأرض بدون تكلف وعلى نحو ثابت تقريبا طوال المشاهد التى نرى فيها قناوى يسير . هذا بالنسبة للأداء الحركى للشخصية الأساسية فى الفيلم والذى بهرنى ومازال يبهرنى كلما شاهدت هذا العمل .
بالنسبة للأداء الصوتى لشاهين , كان ادائه ممتاز يظهر اضطراب الروح والمحاولات اليائسة للحاق بقطيع الأغيار عبر جسر هنومة وهو الجسر الذى رأى فيه انتمائه لدنيا السواء . وبعد محاولة قتل (حلاوتهم ) احدى زميلات (هنومة ) نلحظ أختلاف الأداء الصوتى لقناوى على نحو اكثر من رائع , كلمات غير مكتملة , مبتورة , بتناغم مختلف ووقفات صمت فى العبارات التى يقولها تشعرك بمدى الصراع النفسى فى الشخصية وبدون أن تحس للحظة واحدة بأدنى ملل او رتابة . وفى ضحكاته القليلة طوال هذا الفيلم نستطيع أن ترصد ثلاث ضحكات مختلفة الأداء , كل ضحكة كانت مقياسا لحالة شعورية مختلفة عن الأخرى .
الأولى بعد حواره مع طلبة - وهو الحوار الذى يصدم المشاهد ويواجهه بالطريقة التى يتواصل فيها المجتمع مع المعاق - نراه يضحك بشيىء من العبث ثم تنتهى الضحكة بوجوم واكتئاب ظاهر ونظرة شديدة الحساسية والاضطراب .
الثانية مع هنومة فى مشهد النافورة بعد عرضه عليها الزواج وطرحه لحلم المنزل , وهى ضحكة تكاد اشبه بالضحكات الهيسترية .
الثالثة فى أخر احداث الفيلم مع ( هنومة ) فى القطار قبيل محاولته قتلها .
الشيىء الوحيد الذى أعتبره سلبا فى أداء شاهين لشخصية قناوى هو اللهجة الصعيدى المميزة وتجاهله لها طوال الفيلم اللهم الا فى مشهد النافورة مع هومة قال ( ان باتكلم جد ) بتعطيش الجيم كعادة اهل الصعيد فى نطقها , وتسخر منه هنومة معلقة ( داد ) .
قناوى من قنا وصعيدى كما يخبرنا بذلك راوى الفيلم عم مدبولى فى أول الفيلم . ولا أعلم ما الداعى ان يتكلم قناوى باللهجة القاهرية طوال الفيلم .
أختيار فريد شوقى - محدود الموهبة - جاء مناسبا للدور تماما نظرا للشكل الخارجى الموحى بالقوة والعنفوان وهو ما أراد صانعو الفيلم التأكيد عليه بمشاهد تبرز قوته وعافيته ,كحمل الحقائب وانقاذ زميل له وقعت عليه حمولته فيحملها عنه بيسر , وفى صراعه مع رابطة المعلم ابو جابر فى أخر الفيلم . وكان التضاد الواضح بين شخصية قناوى النحيفة الزائغة النظرات والمتذبذبة الصوت وبين شخصية ابو سريع له عامل كبير فى ابراز استحالة بلوغ المأمول وعبور جسر هنومة لعالم السواء . وأداء فريد شوقى كان بسيطا جدا , شخص قوى ذكورى الاتجاه قيادى يأمل فى تكوين رابطة او نقابة للشيالين وهو ما يجعلنا نشعر ان العمل المجتمعى حكرا على هذا النموذج من الأغيار.
أختيار هند رستم لدور هنومة جاء جيدا كشكل خارجى وان كان أداءها نمطيا ومعتادا فى بعض المشاهد فانت تشعر انك فى كثير من المشاهد انك امام هند رستم المعتادة فى افلامها السابقة وليس امام هنومة بائعة المياة الغازية .
حسن البارودى كان أكثر من رائع فى جميع مشاهده القليلة فى الفيلم فقد استطاع أن يسرق أذن المشاهد قبل عيناه بأداء صوتى مميز جدا
الملابس فى الفيلم كانت مميزة جدا وغير متكلفة الا فى شخصية أبو سريع حيث ظهر فى زى مختلف تماما عن زى الشيالين وهو ما يجعلك تشعر بأختلاف الشخصية عن باقى الشيالين .
فى الفيلم خط درامى مواز أخر لفتاة وحبيبها تنتهى برحيل الفتى عنها بعيد فى أشارة الى تشابه النهايتان وهو عدم تلاقى الاحبة وفشل القصتان وينتهى الفيلم بصورة الفتاة الدامعة وفى الخلف أبو سريع يحمل هنومة بعد انقاذه لها من يد قناوى وصورة قطار ينطلق مسرعا خارج المحطة .
فى الجزء الآتى من التدوينة سأتناول بعض لنقاط محاول ان احلل بها الشخصية الأساسية للفيلم :
معاملة الأغيار للصورة المكروهة من المعاق :
وهى الصورة او الشخص الذى يعتبره المعاق خياليا غير موجود ويتعامى عنه متناسيا بذلك اعاقته او محاولا ان يتناساها وقد سبق ان اشرت لهذا الشخص فى التدوينة السابقة . تابع مع هذا الحوار من اصل السيناريو والحوار
طلبة : عقبالك يا عروجة
لقطة متوسطة لرجل قناوى وهى تهتز ويسحبها ببطء بينما يستمر الصوت من خارج الكادر
عم مدبولى : وبعدين يا طلبة
طلبة : ياعم اهو كلام انت بالك زى ده هيتجوز
عم مدبولى : يتجوز قوى ما يتجوزيش ليه
لقطة قريبة لقناوى يرفع وجهه وينظر من خلف زجاج الكشك وينظر للكاميرا والصوت مستمر ( وتظهر عينى قناوى من خلال تأثير الزجاج كبيرة وجاحظة وغير واضحة وتزداد جحوظا )
طلبة : غيرش بقى لما يلاقى واحدة خرج بيت ولا عرجه زيه
عم مدبولى : حرام عليك يا طلبة يا راجل خف عنه شوية
طلبة : ياعم هو ده بيهمه
عم مدبولى : لا يهمه قوى ربنا يعلم باللى هو فيه الكلمة دى بتوجعه قوى اذا كان ليا خاطر عندك بلاش تقولها له يابنى
الطفل : اه أصله بيزعل أنا عارف كده
نلاحظ هنا أمران هو تعددية الأخر فى تعامله مع قناوى فحينما كان يشفق عليه عم مدبولى وتظهر علامات التأثر على أبوسريع كان طلبة يضع امامه صورة المعاق ذو النقيصة والذى لا يستحق الزواج مثله مثل باقى البشر امام عين قناوى بصورة فجة , ويحدد مصيره بطريقة الوصى حينما يقول ان كان يريد الزواج فليجد واحدة خرج بيت او عرجه مثله .
والأمر الأخر رد فعل قناوى بحركة طبيعية وهو يدارى رجله المصابة او عاره الذى يتعامى عنه . ثم يرسل قناوى رسالة واضحة لعالم الأغيار المحيط به لا يفهمونها ويقابلونها بالضحك فى الحوار التالى :
قناوى : طلبة
طلبة : ايوه
قناوى : يعنى لازم تكون عرجة ؟
طلبة : ماجمع الا ما وفق
قناوى : واذا كانت عورة ما تنفعش
طلبة : تنفع اوى
قناوى : طب ما تجوزنى اختك بقى
( يضحكون )
يضحك قناوى ولكنه سرعان ما يتجهم وجهه فلم يفهم الأغيار ماأراد ان يقوله لهم
أان يقول أن الامر أسهل مما تتصورون وأن اقرب المحيطين لكم معرض للأعاقة ما قد تكون أنت او أخوك او أختك . أراد أن يقول ماذا سيكون موقفكم لو كنتم او أحد المقربين لكم فى موقفى هذا . ولكن تذهب الرسالة فى دخان سيجارة طلبة
مشهد اخر يبرز كيفية تعامل الاغيار مع الصورة المشوهة للمعاق فبعد ان تكتشف هنومة وجود قناوى فى كوخها يدور هذا حوار بينهما يحاول فيه قناوى التواصل مع هنومة مستصرخا اياها ان فقط تدعه يقبل يداها فيهرب قناوى من الكوخ ليحدث اشد المشاهد قسوة فى رأى فى الفيلم
هنومة : طب وشرف امى لاقول لأبوسريع يربيك يا قليل الادب يا عروجة انتو شايفين شاهدين
حلاوتهم : وراه يا عيال بالطوب
الأولاد : يالا يا احمد
يقذفونه بالطوب فتصيبه احداها وتسيل دمه ويتأوه
نقطة اخرى فى الأطار العام للفيلم وهى محورية فكرة الجنس فى شخصية المعاق وهو موضوع قد يسبب التباسا كبيرا على من يشاهد الفيلم دون أدراك لمعنى رغبة المعاق للجنس
فى الفيلم يفاجأنا عم مدبولى انه أكتشف ان قناوى شخص محروم وتدور الكامير فى أرجاء غرفته مركزة على كم هائل من صور فتيات شبه عرايا فنعلم ان قناوى محروم جنسيا وأن وجود هذا الكم من الصور العارية يشير على وجود تشوه نفسى كبير جراء حرمانه من حق طبيعى لكل انسان .
عندما نشرت قصتى القصيرة ( طريق اعرج ) على مدونتى قرأها احد الاصدقاء وسألنى لماذا التركيز على موضوع الجنس فى شخصية حسن بطل القصة ؟ فأجبته الجنس بالنسبة للمختلف هو اثبات لأنسانيته وتأكيدا لهذه الأنسانية المهدرة ففى حين يرى السوى فى الجنس شيئا حيوانيا الا ان المختلف يعتبره قمة التأكيد على الأنسانية فبممارسته للجنس مع السوى اصبح على قدر المساواة وأقترب أشد أقتراب من السوى وبالتالى دنا من قطيع الاغيار واصبح جزءا منه .
وبهذه الرؤية أستطيع أن أحلل محورية الجنس فى حياة قناوى ففكرة الحرمان تبدو سطحية جدا حين نتعامل مع المعاق على أنه شخص مريض نفسى ولكن الجنس لديه درع واقى من الشعور بالدونية والامتهان الذى يلاقيه بصفة يومية . فكانت هنومة هى بوابته الى عالم الأسوياء والأنخراط بينهم بندية . ولعلك تسأل ولماذا هنومة بالذات لماذا لم تكن أى شخصية نسائية اخرى فى الفيلم مثل حلاوتهم مثلا او أى من زميلات هنومة الاخريات ؟ والاجابة هى ان المعاق فى رحلته المستحيلة لبلوغ السواء يبحث فى اقصى نماذج الكمال ليقترن بها كوسيلة لترسيخ فكرة السواء لديه ولتجعل هذه الصورة الصارخة من السواء أى نقيصة او عيب فى جسده متواريا ومستورا فالمعاق قد اقترن بصورة شبه مطلقة للسواء
هنومة هى أجمل الفتيات واكثرهن أثارة ومطمع لأبوسريع نموذج الرجل الكامل , وبالتأكيد ليست خرج بيت , فأن اقترن بها قناوى كانت له جسرا قويا ومتينا الى دنيا السواء وكانت برهانا للأغيار أن يعاملوه بمساوة وندية .
فى أحد مشاهد الفيلم يعلق قناوى ثلاث نسخ لصورة واحدة بأوضاع مختلفة مرة بالشكل الصحيح ومرة بالجنب ومرة مقلوبة ثم ينظر الى الصورة التى علقها بالشكل الصحيح والسليم ويرسم على ذراع الفتاة جردل كالتى تستخدمه هنومة فى بيع المياة الغازية ويبدأ فى أحلام اليقظة ويسرح بخياله فى تصور السواء فقط من خلال هنومة .
الصورة بالشكل السليم ومعها الجردل تحمل دلالات وكأن السواء ارتبط بهومة وجردلها هو هويتها ,فى حين أن الصورتين وهما نفس النسخة, ليستا على الوضع السليم وبالتالى لا يستحقان ان يصبحا هنومة ولا يستحقان جردل هنومة .
نقطة أخرى فى الفيلم وهو لماذا كان قتل هنومة او بالأحرى محاولة قتلها حتميا بالنسبة لقناوى ؟ وهل كان قتله لها - على أعتبار أن محاولة القتل بالنسبة لى فى الفيلم تعنى القتل الفعلى - كان نتاج لحاله جنونية ناتجة من من حالة وله شديد حينما تأكد بأستحالة التواصل معها ؟ ام أن الأمر له بعد درامى اخر ؟
فى رائى انه يجب ان ننظر لمحاولة قتل هنومة نظرة وجودية بعض الشىء .
ففى الوقت الذى كانت هنومة تمثل لقناوى جسرا متينا صلبا لعبوره لعالم السواء بقبولها له كانت ايضا حجرا ربط فى ظهره ليغوض به الى أعماق الدونية بسرعة الصاروخ . كان رفضها له اشد دليل بأستحالة التواصل بندية مع الأغيار ولذلك كان قتلها واجبا بالنسبة لقناوى ففى حياتها تأكيدا صارخا على عدم مساواته للأغيار . قناوى لم يلحظ الفارق بين جسم هنومة وحلاوتهم ولا الفارق فى طول ولون الشعر كل ما كان يهمه ان يتخلص من دليل فشله على التواصل مع دنيا الأغيار . كان قتل هنومة حتميا له فلقد أصبحت قيدا له لن يتخلص منه الا بقتلها .
بقى أن اقول ان الفيلم قصة و سيناريو ( عبد الحى اديب ) حوار ( محمد ابو يوسف )
موسيقى تصويرية (فؤاد الظاهرى ) وأنتاج ( جبرائيل تلحمى )
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)