قالت : إذهب لعل فى هذا الطريق خير لك وللصغيرتين
قلت : لا أريد . أنتى تعرفين ما حدث وما سيحدث . لا داعى لهذا افضل .
قالت : لا تعلم أين هو الخير ؟ ربما شاء الله خيرا لك فيه .
قلت : لا أظن الله يعبأ بمثل هذا الأمر ، سأذهب غداً فقط لأنك تريدين ذلك.
نظرت إلى أبنتاى ، ما زالت عيناهما تلمعان بالبراءة ، تلك المفقودة فى عيون الكبار .
ترى هل سيفقدون هذا اللمعان قريباً عندما يعلمون الحقيقة ؟ ربما مازال نظرهما قاصراً ، فما زالا يريا الجميع بنفس الحجم وبنفس التقدير .
أمضت ليلتها تحلم بالمستقبل ، تصول وتجول كما تريد فى دنيا اخترعها وهمها الغبى ،
كنت أراها ترقب نقاط وهمية فى سقف الغرفة العميق وتبتسم .
أكاد أرى حلمها رأى العين فى ملامحها العطشى للحلم الخليجى القذر دون ان تدرك ان لهذا الحلم ثمن أغلى من تصوراتها
وأنا دافع ثمن هذاالحلم لا محالة ،
اللعنة على النساء ،
لا يلتفتون إلا بما سيأخذون ،
وليحترق الكون ثمنا لما يطلبون
***************************************************
فى الصباح وجدت بدلتى معلقة بنظام غير معتاد ، لم أعلم أنها لم تنم ليلتها إلا عندما رأيت ذاك التورم تحت عينيها ، لم أعبأ كثيراً ، ولم أعلق
ارتديت البدلة والكرافت ، كم أكره ارتداء هذا الشيىء حول عنقى ، اشعر أننى كلب يجرونه من سلسلته ويوجهونه حيث يشاءون ، أكره التقييد والرسمية
صاحبتنى دعواتها الخافتة ، تعلم أنى أكره هذه الدعوات التى لا تسمن ولا تغنى من جوع ،
ابتسمت لى وجعلتنى أعدها ان اتصل بها فور انتهائى من المقابلة كى تطمئن
ودعت صغيرتاى بنظرات سريعة ، كدت أرى الضوء يشع من وجه الصغرى ، أشبه الناس بى ، أرى فيها امتداداً أخر لوجودى فى هذا الكون
مترو الأنفاق هو أسهل الوسائل بالنسبة لى كى أصل لمكتب .........للألحاق العمالة بالخارج، توجد اتوبيسات كثيرة توصلنى إلى مبتغاى بشكل أسرع ، لكن بينى وبين الأتوبيس جفاء عاطفى دام أكثر من ثمان عشرة سنة
الصباح نوه عن يوم مطبوع عليه علامة صنع فى جهنم مع أطيب التمنيات بقضاء يوم مثل فرن البوتاجاز
استطيع ان اركب من محطة عين شمس القريبة ، لا ادرى لماذا ركبت ميكروباص رمسيس ؟ اكتشفت السبب بعدما نزلت منه ، ما زال حنينى لكوبرى القبة كأخر مرة ،
مازال الازدحام كما هو تحت الكوبرى ، وجوه متشابهة كالتى كنت أستمتع برأيتها يوميا منذ اكثر من عشرة اعوام ، نفس العجلة والهرولة والنظرات الخاطفة ،محل عصير القصب امام المحطة مغلق ، كم اشتقت له ، تذكرتها وانا واقف امام المحل كالابله ، مازلت اسمع ضحكاتها رغم الضوضاء الخرافية تحت الكوبرى ، بحثت عيناى عن المقهى الصغير ، ازدادت ابتسامتى اتساعاً حين رأيته مازال قائماً ، مازال يأتيه عشاقه وبنفس الكثافة حتى فى هذا الوقت المبكر ، فى نفس المقعد جلست ، ترى هل سيتذكرنى الجرسون ؟ ترى هل مازال يعمل ؟ مازلت اتذكر ملامحه ونظراته العابثة وطرقه الذكية فى استخلاص البقشيش من كل زبون ، كنت اعلم انه افاق ولكن ارتبط وجوده بوجود المقهى .
جاءنى آخر ، طلبت قهوة مظبوط ، يفتقد هذا الآخر الكثير ، ما أبعده عن سابقه ! عيناى مارست طقوسها المعتادة فى مراقبة المحاطين بى ، لم افقد قدراتى بعد ، ابتسمت
غادرت المقهى فى اتجاه المترو ،إتجاه رمسيس مزدحم كالعادة ، تكدسنا فى العربات كفراخ آن ذبحها فهرعت الى اقفاصها فرحة بتخلصها من نتن دنيا البنى آدميين
لم أحتمل وجودى فى علبة السردين هذى كثيرا ، نظرت الى اسماء المحطات اقربها محطة حسنى مبارك ،
اكره هذى المحطة كثيراً لا لشيىء سوى انها وصفت به ،
ترى هل سيموت هذا الرجل قريبا ؟
اشعر ان ابنائى سيلقون ربهم قبل ان يلقاه هذا المعمر
كان لا بد ان اغير المترو فى هذه المحطة كى انزل محطة محمد نجيب ( باب اللوق )
جذبنى احدهم نحوه يريد مساعدتى فى ركوب السلم المتحرك ، كدت اسقط من حركته هذه ، نظرت اليه بطريقة اشعرته بجرمه ، تدربت كثيرا على هذه النظرات ، كانت تغنى عن كثير من الكلام ، تركته يسبقنى كى اتأكد من عدم تكرار حماقته على السلم ، لماذا يشعرون اننا عاجزين دوما ؟ لو كنت لا استطيع ان اركب السلم المتحرك فسأصعد السلم العادى بكل شمم وإباء ولن يعنينى ان الناس اجمعين يستخدمون السلم المتحرك وانا استخدم العادى .
******************************************************
فى المكتب نظرت وكما توقعت وجدت كثيرون ينتظرون ، نظرات متوترة اعرفها تمام المعرفة ، رأيتها كثيرا حين كنت اختبر مدرسين جدد لمدرستى ، شعرت بضيق من هذه النظرات ، حين جلست لم اعلم لما شعرت اننا عبيد فى نخاسة قذر لكن لا نباع فيه جبرا
وانما اختياراً ، تاجر العبيد ذو الغترة وضع رجل على رجل بكل ثقة ، راقبنا من خلف الباب الزجاجى ، عاين البضاعة وظهرت عليه امارات التأفف من ما رأى ، شعرت بنقمة شديدة على بلادى التى اعشقها
لماذا تفعل بأبناءها هذا ؟
هل نحن الجناة ؟ ام هم ؟ ام كلانا ؟
هل الظروف والاوضاع المزرية فى بلادنا وحلمنا الخليجى هو المحرك الاساسى لبيعنا فى سوق النخاسة الخليجى ؟
ام ان الامر صار جينيا فى دماءنا فصرنا نستمرىء الهوان فى مازوخية شاذة ؟
اااااااااه كم اشتقت لك يا صديقى !!
يا معلمى
يامن جعلت بوعيك المرهف كائناً بيولوجياً ابعد ما يكون من الانسانية بشىء ،انسان واعياً قادر ،
كم اشتاقت اذناى لصوتك
لماذا ابتعدت صديقى ؟ هل بأختيارك ام كنت مجبور ؟ ام هى الظروف التى لم تعترف بوجودها عائقا لك ومبررا لغيرك على الفشل ؟
كم اطوق لسماع اجاباتك عن تساؤلتى هذى ، هل صرنا عبيداً كى ينظر لنا مثل هذا البرميل تلك النظرة الدونية وكأننا خنازير ستذبح لوباءها .
******************************************************
بصوت صامت خالى من اى مشاعر تقريبا قال لى : ما اسمك ؟
اجبته
قال : لكن هذه اول مرة تأتى فيها للمكتب صحيح ؟
قلت : نعم
قال : للاسف لن تستطيع ان تحضر المقابلة ؟
قلت : لماذا ؟
قال : لان اسمك ليس فى القائمة التى مع صاحب العمل
قلت : حسنا ضع اسمى فى القائمة
قال : لا استطيع ، انا اسف
قلت : انا اتصلت وقال لى الاخ فى التليفون ان هذا امر عادى وان المقابلة ستتم
قال : اسف على الخطأ
قلت وصوتى آخذ فى الارتفاع : يعنى شكلى مش عاجب معاليك ولا معاليه
قال : معالى مين يا استاذ . انت اسمك مش موجود دى كل الحكاية
قلت : لا مش دى كل الحكاية ، جلوص الطين اللى قاعد جوه ده مش عاجبه ان واحد زى حالاتى ياخد فرصة زى غيرى بدون ما يبص فى ام الورق او حتى يشوف لغتى مع انى واثق انى افضل من سيادته سواء تربويا او لغويا
قال : اتفضل يا استاذ لو سمحت
****************************************************
فى العودة اشتدت الشمس وكأن الجحيم انتقل الى القاهرة . شعرت انى قوى ، خطواتى اكثر ثباتا من ذى قبل ، اتصبب عرقا واتحرك بخفة ، ارتحت نفسيا حين مسحت بالرجل ارض المكتب ، كنت اسبه وانا اتفنن فى اختراع تراكيب غريبة من السب المهذب ،
عدت من نفس طريق ذهابى لسوق النخاسة ، فى كوبرى القبة ما زال محل عصير القصب مغلق ، ومازلت اسمع ضحكاتها وتعليقاتها الساذجة ، كانت تحاول ان تقنعنى انها عليمة ببواطن الامور ، كنت سعيد بمحاولتها
نظرت لاسماء المحلات نظرة سائح ، لماذا يحاول المصريون دائما اللحاق بركب التقدم والعصرية بإختراع انماط لغوية جديدة ، لماذا يحاولون ان يثبتوا لانفسهم انهم حداثيون بنبذهم لغتهم وتشبثهم بلغات اخرى ، بل الشيىء العجيب انك ترى الأسم الاجنبى مكتوب بحروف عربية ، ( ستار كلين ) ( اير هاوس )
ترى هل تفاقمت ازمة الهوية ووصلت الى حدود اللغة ؟
هل فى الاسم الاجنبى رونق يختلف عن الاسم العربى ؟
هل الموروث الشعبى الذى لطالما حورب من قبل السلفيين والحداثيين معا ، انقرض الى غير رجعة ؟
مالسر وراء كل هذا الكم من الاربفرانكو او الفرانكوارب؟
***************************************************
رنين المحمول اقتلعنى من تساؤلاتى
قالت : لماذا لم تتصل ؟ او لم تعدنى ؟
قلت : لم ارد ان احزنك
قالت : ماذا حدث ؟
قلت : لا شيىء
قالت : هل حضرت المقابلة ؟
قلت : لا
قالت : لماذا لم تذهب ؟
قلت : لم استطع ان اذهب ، سامحينى
وحيد جهنم
هناك 4 تعليقات:
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآآآه
عذرا صديقى ...... فبعد قرائتي لهذا البوست لا يوجد لدى تعليق سوى هذه الاهات
واسمح لى باقتباس بعض العبارات التى كتبتها فهى خلاصة الكلام والمختصر المفيد في شرح وضعنا البليد
أكاد أرى حلمها رأى العين فى ملامحها العطشى للحلم الخليجى القذر دون ان تدرك ان لهذا الحلم ثمن أغلى من تصوراتها
وأنا دافع ثمن هذاالحلم لا محالة ،
لماذا تفعل بأبناءها هذا ؟
هل نحن الجناة ؟ ام هم ؟ ام كلانا ؟
هل الظروف والاوضاع المزرية فى بلادنا وحلمنا الخليجى هو المحرك الاساسى لبيعنا فى سوق النخاسة الخليجى ؟
ما أريد أن أعاتبك عليه هو سؤالك " هل صرنا عبيداً كى ينظر لنا مثل هذا البرميل تلك النظرة الدونية وكأننا خنازير ستذبح لوباءها" .... ألا تعلم ياصديقي اننا منذ أزل الآزلين ونحن مـسـتـعـبدون مذلولون لا نستطيع حتى التفكير في التطهر من ربقة الذل والقهر والاستعباد
وأخيرا ..... ليس هناك أفضل من أن تكون وسط أهلك وأصدقائك حتى لوشعرت بالاغتراب وانت معهم .... يكفبك مراقبة ابنتيك وهما يكبران أمام عينيك . ربنا يباركلك فيهم
مشكور يا عزيزى على تفاعلك مع ما كتبت
واعتذر عن التأخر فى الرد
اعجبتني وادهشتني كثيرا تلك القدرة الأدبية علي التصوير ولمس الوتر الحساس لدينا جميعا كمصريين ترمي بنا الأقدار بين رحي الحاجة وكل أصناف النخاسين في بلادي التي (لا أحبها أحيانا) وبلاد جالونات النفط المتخمة! وألمح السوداوية القابعة في تعبيراتك والحساسية المفرطة في تعبيراتك وتوصيفك وأعتراضك وثورتك
وأقول انني اتمني ان اقرأ عملا اخر لك
جمال ابوزيد
الصديق جمال ابوزيد / تحياتى
مشكور على مرورك الكريم للمدونة واتمنى ان تداوم على زيارتها من ان لاخر وشكرا لتفاعلك لما كتبت
احترامى ومودتى
إرسال تعليق