الثلاثاء، 5 أغسطس 2008

رواية الجزء الثامن

للمقهى تأثير خاص على حسن , ودائما ما يبرهن على حبه للمقهى بساعات طوال يقضيها عليه , مقهى الكوثر , يعلم من يجلس عليه جيدا , درسهم وخبرهم حتى صاروا كتابا فى ناظريه , له مكان معروف على هذا المقهى , فى احد اركانه لايراه رواد المقهى ويراهم هو بكل يسر , خبره الجرسون منذ امد بعيد , ما ان يجلس على كرسيه حتى يأتيه بكوب الشاى بالنعناع , وبعده فنجان قهوة مظبوط , دون ان يطلب , وكثيرا ماكان حسن يصادف احدهم فى مكانه المعتاد فيقوم الجرسون بالواجب ويطلب منه ان يغير مكانه , فهذا مكان الباشا كما يقول , كان لحسن فى هذا المقهى حيثية استمدها من تأثير البقشيش الذى ينفحه للجرسون كلما اتى عليها , وعادة ماكان البقشيش مغرى للدرجة التى تجعل الرجل يهلل له ويكبر فى كل مرة , لكن انعزال حسن عن رواد المقهى المعتادين لم يمنع قلة منهم ان تتطفل عليه وتقتحم خلواته المختارة فى جلساته , قاطعيين حبل احلامه الممتعة غير ابهين لحنقه وغير مكترثين لردوده المقتضبة , فى مرة من المرات جلس بجواره شحاذ , او هكذا ظن ,
" كوب شاى يا باشا "
" شكرا "
" لا انا اريد منك كوبا من الشاى يا باشا "
" تريد كوب شاى "
" نعم طمعا فيك يا باشا "
" كلا "
" يا باشا انا طمعان فى كرمك "
" كلا "
كوب الشاى لم يكن يعنى لحسن شيئا , ولكنه رفض ان يمنح الشحاذ مطلبه البسيط , لعل الرجل استفزه بلفظة " طمعان", ولعل حسن كره من الرجل اقتحامه خلوته , كوب من الشاى لا يعنى له الكثير ومع ذلك ابى ان يمنحه للرجل , يكره ان يعطى بأمر من احد ربما ,




فى تلك الليلة وبعد ان غادر شقته ذهب الى هذا المقهى , حاله يرثى لها , عكازه الجديد زاد على عرجه عرجا , له زمن لم يأتى الى هنا , استقبله الجرسون بترحاب ولم تخلو نظراته من تعجب لهيئته , جلس وهو خاوى الذهن , وهى حالة نادرة عند امثال حسن , ان يخلو ذهنه بهذا الشكل فهذا امر عجاب , انهى كوب الشاى وجاء دور القهوة , من بعيد اقترب , شاهده مرات عديدة يجلس وحده مثله , يظنه فى الستين من عمره , نظارته السوداء منحته مظهرا قدسيا مهيبا , له لحية بيضاء تتخللها شعيرات سوداء زادته مهابه , مهندم دائما , من المؤكد ان هناك من يساعده فى اختيار ملابسه وارتدائها على الاقل , لا مكان له فى وسط المقهى , يقوده الجرسون الى الكرسى الوحيد الشاغر , جلس بجواره , نغم النرجيلة له وقع محبب على مسامع حسن , دخان كثيف يهرب من شدقيه وانفه ويغلف حسن
" هل تعلم الانسان من اغبى ما خلق ربك "
وجه الكلام اليه مباشرة وبدون مقدمات , كيف علم ان هناك شخصا يجلس بجواره , تعجب حسن
" ها "
" كما اقول لك يا استاذ , هذا الانسان كائن غبى لا يستحق اى عناء لمواساته حتى "
" كيف "
" انا اقول لك كيف يا سيدى , كلنا نكذب اليس كذلك ؟"
" بلى "
" الانسان يكذب على من حوله ولا يكتفى بذلك فقط بل يكذب على نفسه ايضا "
" يكذب على نفسه !"
" نعم بل ويزيد الطين بله فيصدق كذبه , وحين يصدق الانسان كذبه يا بنى تتوارى كل حقيقة"
" كيف يكذب الانسان على نفسه ؟"
" انا اقول لك , اليوم مثلا فى التلفزيون سمعت احدى المذيعات الغبيات , اولئك الذين اذا سمعتهم انقلبت معدتك رأسا على عقب , انا اسميهم المذيعات المتهتهات , المهم كانت الاخت الفاضلة تتحدث عن مصر وجمال الطبيعة فى مصر وكيف ان السياح ينتظرون العام كى يأتو الينا وينعموا بطقس مصر الخلاب المعتدل وكيف ان فرص الاستثمار فى مصر فى ازدياد مستمر والناس تشعر برغد العيش وبأثر الاصلاح الاقتصادى ... الخ الخ الخ وظلت المعتوهه تكيل لنا من الاكاذيب مالاقبل لنا بتحمله , المرأة تكذب وانا وانت نعلم انها تكذب لكن الواقع انها لا تكذب على السياح او الاجانب بل انها تكذب علينا نحن , وهذا يابنى هو ان تكذب على نفسك , والامر ليس كذلك فقط فانت تشعر ان المرأة تصدق كل حرف تنطق به وتتحدث وكان ما تقوله هو الحقيقة الوحيدة المطلقة , وهذا يا بنى ان تصدق كذبك وتجعله حقيقتك "
" لا اعلم كيف يصدق المرء كذبه "
" اقول لك يا اخ ....؟!!!"
" حسن "
" عاشت الاسامى يا ستاذ حسن "
" تسلم "
" انا اقول لك كيف يصدق الانسان كذبه "
" نعم "
" عندما يهرب الانسان من الصدق او الحقيقة ويكذب على نفسه مرة ويستلذ كذبته تلك فتأكد ان المرة التاليه ستصبح كذبته حقيقة له وحده "
" ها "
استمر الرجل يتحدث وحسن ينظر اليه ببلاهة ولا يدرك ما يحادثه الرجل عنه , انصرف الرجل , وانصرف حسن الى بيته القديم , وقضى ليله نائما من فرط تعبه وارهاقه , لم تداهمه الكوابيس , فى اليوم التالى عصرا ذهب الى بيت هناء وسأل عنهم وانصرف وعاود مرة اخرى فى المساء ولكن قيل لهم انهم بالمشفى القريب , ستضع هناء حملها مبكرا ذهب الى المشفى وجدهم هناك يبكون , هناء ماتت وهى تضع وليده , انجبت له ذكرا يحمل ملامحه حمله بين يديه , نظر الى الجسد المسجى امامه وبكى , وفى عينى طفله رأى طريق مستو , لا ينعرج على سائريه , ولمح هناك صدقا فى نهايته يشع ضياء فينير الطريق , لقد فهم حسن الان كيف يكذب المرء على نفسه وكيف يصدق كذبه , وحينما خرج من المشفى علا صوته قائلا
" انا اعرج "
ظل يرددها مررا حتى التف الناس حوله يصفقون على ايديهم شفقة وحزنا , وفى الطريق الى منزله ايقن ان العرج ليس بقدمه وانما فى الطريق , ولكى يستو الطريق على السائر ان يكون صادقا مع حقيقته ,,

انتهت
وحيد جهنم

هناك تعليقان (2):

غير معرف يقول...

أهنئك على هذه الرواية الرائعة وأواسي نفسي لانتهائها وأنتظر منك غيرها , ولكن لماذا هذه النهاية ؟ لم ماتت هناء ؟ هل كان من الضرورى رحيلها حتى يستطيع حسن أن يتبين الحقيقة, أعلم أن الرواية تحوي كثير من الرمزية فإذا كانت هناء رمزا وعايدة رمزا فما المقصود برحيل هناء وسقوط عايدة , أم أنك لا تريد تحميل الرواية على كونها رمزية مطلقة .

ِوحيد جهنم يقول...

نحن نتعلم من تجاربنا يا عزيزى , هناء كانت رمزا للبلادة فى روح حسن ودليلا على سيطرة الام وبموتها تكشفت له امور عدة منها ان حالة الانفصال عن الواقع التى يعيشها المختلف ليل نهار ليست هى سواء السبيل له , ولكن سواء السبيل يبدأ بادراك الاختلاف والايمان به , ان يدرك المعاق ادراكا كاملا باختلافه هذا هو بداية الطريق
مشكور ياعزيزى على تفاعلك الرائع للرواية وهناك فى الطريق اشياء اخرى اتمنى ان تلقى اعجابك
وحيد جهنم