السبت، 2 أغسطس 2008

رواية - الجزء الاول -

تصبب عرقا , واخذت يداه تقاوم ايادى اخرى وهمية , كان يتنفس فى صعوية , تتلاحق انفاسه وتتدافع من انفه بسرعة شديدة , كان الفتى يحلم . رأى نفسه فى اعماق بئر , يتشبث بدلوه كى لا يغرق , ومن فوقه عند الفرجة امرأتان فى يديهما سوطان طويلان ينهالان عليه به , ويتضاحكان . زوجته وامه يالا المفارقه كلتاهما تحرق ظهره بالسوط ولا يدرى السبب . حاول ان يتكلم او يصرخ او حتى يتأوه لكن لم يستطع . الغريب فى الامر ان السوط كان يصل له فى غياهب الجب مع ضيق المساحة . لم يتعب ذهنه فى ذلك , كل ما كان يشغله هو لماذا يكيلان له السياط ويتضاحكان وكأنهما سكارى يستلذان بما يفعلانه به .
افاق من نومه جالت عيناه فى ظلام الغرفة بحثا عن ضوء , وجده قادم من نافذته الضيقه, ضوء ضئيل الا انه بدد ظلمته . ظل دقائق فى سريره يحاول ان يدرك حيز المكان والزمان . نظر بجواره وجدها تغط فى شخير ذكره بصوت الغوريلا الجوعى . شيىء هلامى المقاييس يشبه جوال القطن لا وسط ولا اقدام ولا رأس . استلقى ثانيتان مرة اخرى ثم جاهد ان يقعد , كان مايزال يتنفس بصعوبة وان خفت حدتها .نظر الى النافذة مصدر الضوء الوحيد فى الغرفة . انصت الى الصخب الاتى منها. اعمل يداه بحثا عن عكازه فيما وراء سريره. وجده اخيرا , قام ملقيا نظرة على الكائن المستلقى بسلام بجانبه ثم سار فى اتجاه النافذة.
كان وقع عكازه وقدمه على ارضية الغرفة كطبول حرب لجيش منهزم يسير الهوينى غير ابه لمطاردة الاعداء . كان ينظر الى ماخارج النافذة والاضواء تقترب منه حتى وصل اليها . وهناك خيل اليه انه يسمع ضحكات لكنه اغلق النافذة





كان حسن من أولئك الناس الذين قلما تصادفهم فى حياتك وتنتبه لهم او حتى تعلم بوجودهم حولك . كان صامتا دوما . لا يشعرك بوجوده الا اذا وجهت له كلاما مباشرا - وهذا لا يحدث الا نادرا - واذا تكلم كان مقتطبا غير معبر عن اى شيىء .غالبا ما كان يكتفى بأيماءه خجلة برأسه او ابتسامة واهنة ترتسم على شفتيه الحاداتين وسرعان ما تتوارى ليعود بعدها هذا الوجه الخشبى الغير معبر عن اى شيىء.جسده الضئيل والمتأرجح بين اليمين وبين اليسار اضاف علي نكرته نكران اضافيا . حتى صوته مرتعش غير واثق, كثيرا مايضغم ويبدل الحروف فينتبه الى ذلك فيحاول ان يعيد ما كان يقوله مرة اخرى فينسى ما كان يقوله , والنتيجة الحتمية لذلك ان ما يسمع حسن عادة ما يشعر بالملل والضجر سريعا ويشيح بوجه عنه . لعل ذلك هو السبب فى صمته المتواصل .وحسن ِِشأنه فى ذلك شأن كل البشر يسرح ويحلم ويفكر وينسج من احلامه نسيجا رائعا لعالم جديد يفبع فى عقله ومخيلته وحده. الا ان حسن يختلف عن باقى الناس فى انه يستمتع بكل لحظة يشرد فيها فى احلامه . لنكن ادق تعبيرا ان حسن يتنفس احلامه حتى يكاد ينعزل عما حوله تماما فلا يسمع ولا يرى ويحس الا ما يراه فى حلمه . وكثيرا ما تراه يهز فى رأسه بأيجاب تارة او بالرفض تارة او يلوح بيديه على نحو غريزى تارة اخرى .حتى ان من يحيط بحسن كانت لديهم قناعة, ترسخت على مدار السنوات التى رأوه فيها, ان ما يفصله والجنون بات شيئا رفيعا جدا يصعب على عقولهم رؤيته . فى احلام اليقظة يضحك الفتى ويبكى , يجرى ويمشى , يجود على هذا ويمن على ذاك , يعاقب هذا ويسامح ذاك , فى احلامه كل شيئ قابل للحدوث والتحقق. هو وسيم وغنى , قوى وذكى , مرغوب من كل النساء , فاجر و تقى , لا يأبه لاحد من حوله , مثار احاديث الناس ونوادرهم , اى صفة يريدها حسن فيه , كل ماعليه هو ان يحلم . والغريب ان حالة الصمت المطبق التى تكتنفه فى حياته الواقعية تتلاشى وتتهاوى فى احلامه , فهو المثقف اللبق حاضر الذهن , الذى لا يصعب عليه نقاش او موضوع , هو علامة عصره فى النقاش وامامه كل رأى سفيه تافه وغير حكيم . حسن كان يحيا الحلم بكل جوانحه يتنفسه بكل رئتيه يشعر ان الحلم هو ما يجعله حيا حتى الان . وكثيرا ما تراه يجلس وحيدا على المقهى معتزلا اقرانه شارد الذهن تظنه قلق وان وجهه الخشبى لا ينم على اى شعور او احساس , الا ان تحت هذا الوجه احداث جسام تحدث يتفاعل معها الفتى على خير ما يرام وتتكاتف الاقدار فى حلمه حتى تحقق ما يصبو له اينما ووقتما اراد.كان حسن يستغل اى لحظة يختلى بها ونفسه حتى يعيش حلم اليقظة - مصدر سعادته الاول بل والاخير فى هذه الحياة . كان يحلم وهو يمشى وهو فى الاتوبيس وهو فى الحمام وهوعلى المقهى فى كل مكان يمكن ان ينعم فيه بسلام من تدخل الاغيار . بأختصار كان الفتى يحيا حياتان , احدهما شديدة البؤس والاخرى شديدة السعادة والبهجة .




فى كل صباح يصحو وحده دون مساعدة من ألة التنبيه . دائما مايكرة المنبه ودائما ما يصحو حسن فى ميعاده وكأن ساعته البيولوجية تأبى عن عدم العمل . فقط هو يصحو مهما كان عدد ساعات سهره فى الليلة السابقة وليس لديه تفسير لذلك . عادة حسن لا يرهق ذهنه بالتفسير . وفى كل صباح يظل جالسا عشر دقائق مرتديا ملابسه بأكملها مستعيدا كل تفاصيل رحلته اليومية الى عمله . سينزل من بيته , مائة واثنتان واربعون درجة عليه ان ينزلها . بعدها يسير ما يوازى الخمسمائة متر او ما يقارب السبعمائة خطوة او يزيد , حتى يصل الى محطة الاتوبيس وهناك عليه ان ينتظر قرابة النصف ساعة - اقل او اكثر- حتى يأتى الغول المسمى اتوبيس.وحينما يوفقه الله فى الصعود فى باطن الغول عليه ان ينتظر نصف ساعة اخرى حتى يصل الى محطته . ويوكن لزاما عليه ان يسير خمسة عشر دقيقة اخرى حتى يصل الى ابواب المصلحة التى يعمل بها.وحسن هو الاول دائما فى الوصول الى مصلحته الحكومية. واذا ما تأخر واصبح الثانى يوما ما فهذا يعنى انه لن يأتى اليوم الى عمله . يرى نفس الشخوص التى يراها كل يوم ويعلم ان هذا او تلك قد تأخروا عن عملهم على حسب المكان الذى يقابلهم فيه اثناء سيره الى محطة الاتوبيس . يضحك فى اعماقه حين يرى ان شخصا قد فاته الاتوبيس او يراه مهرولا يلهث وراءه . كان يعلم انه علامة مميزة فى الشارع فى الصباح اثناء الرحلة بل يكاد يجزم ان الناس يعتبرونه ميقاتا لهم لمعرفة مدى تأخرهم او ابكارهم.

هناك 4 تعليقات:

ka2en Makboot يقول...

ماشاء الله اسلوبك الادبي ولغته العربية ثرية جدا وممتعة

ولو ان البداية بالحلم او الكابوس ده مفتوح مفهمتش المغزى منه ايه

منتظرة البقية ..

تحيــاتى

ِوحيد جهنم يقول...

مشكورة عزيزتى على مرورك الراقى اما بالنسبة للحلم او الكابوس فالمغزى منه سيظر فى طيات الاحداث

تحياتى لكى

غير معرف يقول...

اسلوب رائع ولغة اكثر روعة , كما يقولون السهل الممتنع ,
اما شخصية حسن فلا اعلم ان كانت رمزيه ام لا , فمعظمنا يعيش في هذين العالمين ... عالم الاحلام وعالم الحقيقة المرة " بضم الميم وليس بفتخها" وبالطبع عالم الاحلام ما هو الا وسيلة للهروب من الواقع .اقول هذ وانا متأكد من صحته لانى مثل حسن احيا معظم اوقاتى في هذا العالم الرائع

ِوحيد جهنم يقول...

عزيزى سما بالضبط كما تقول حسن هو رمز للمختلف عن كل الاخرين وصدقا عندما كتبت هذه الرواية لم اكن اريد ان اشخصن وارمز هذه الشخصية ( اعنى شخصية حسن ) واسقطها على كل معاق , ولكن ما اردته هو الترميز والاسقاط على كل من يشعر باختلاف عن الاخر , اما بالنسبة لللاحلام فهى للشاذ والمختلف عن الاخرين ليست فقط وسيلة من وسائل الهروب من ناحية علم النفس ولكن هى طوق نجاة يتشبث به محاولا اعادة التوازن بينه وبين الواقع وهى فى الاخير حيلة دفاعية لاتنجى الا من يعى تكويناتها
مشكور صديقى على مرورك الكريم